Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 115-115)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

حسبتم ظننتم يعني : ماذا كنتم تظنون في خَلْقنا لكم ؟ كما قال في موضع آخر : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] وكلمة { عَبَثاً … } [ المؤمنون : 115 ] العَبَث هو الفعل الذي لا غايةَ له ولا فائدةَ منه ، كما تقول : فيم تعبث ؟ لمن يفعل فِعْلاً لا جدوى منه ، وغير العبث نقول : الجد ونقول : اللعب واللهو ، كلها أفعال في حركات الحياة . لكن الجد : هو أن تعمل العمل لغاية مرسومة . أما اللعب فهو أن تعمل عملاً هو في واقع الأمر لا غاية له الآن إلا دُرْبتك أنت على الحركة وشُغْل ملكاتك حتى لا تتوجه إلى فساد شيء أو الإضرار بشيء ، كما تشتري لولدك لعبة يلهو بها ، وينشغل بها عن الأشياء القيِّمة في المنزل ، والتي إنْ لعب بها حطّمها ، فأنت تصرف حركاته إلى شيء لتمنعه عن أشياء ضارة ، أو تُعلِّمه باللعب شيئاً يفيده فيما بعد ، كالسباحة أو ركوب الخيل . واللهو كاللعب في أنه يكون لغاية قد تأتي بعد ، أو لغاية تنفي ضرراً ، إلا أن اللعب حين تزاوله لا يشغلك عن مطلوب ، أما اللهو فهو الذي يشغلك عن مطلوب ، فمثلاً الطفل دون السابعة يلعب في أوقات الصلاة ، فيُسمّى فعله لعباً ، فإنْ كان في العاشرة يُسمَّي فِعْله لَهْواً لأنه شغله عن الصلاة ، وهي واجبة عليه . واللعب يُدربك على أشياء قد تحتاجها وقت الجد فتكون سهلة عليك ، أما العبث فلا فائدةَ منه ، لذلك قال سبحانه : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً … } [ المؤمنون : 115 ] فنفى أن يكون الخَلْق عبثاً بلا غاية لأن الله تعالى خلق الخَلْق لغاية مرسومة ، ووضع لهم منهجاً يحدد هذه الغاية ، ولا يضع المنهج للخَلْق إلا الخالق . كما قلنا سابقاً : إن الصانع الذي صنع هذا الميكروفون لم يصنعه ثم طلب منا أن نبحث له عن مهمة ، إنما قبْل أنْ يصنعه حدد له مهمته والغاية منه ، وهي أن ينقل الصوت لمسافات بعيدة ، إذن : فالغاية مرسومة بدايةً وقبل العمل . فالذي يحدد الغاية هو الصانع المبدع للشيء ، وهو أيضاً الذي يحدد صلاح الصنعة لغايتها ، ويحدد قانون صيانتها لتؤدي مهمتها على أكمل وجه ، وأنت أيها الإنسان صنعة الله فَدَعْهُ يحدد لك غايتك ، ويضع لك منهج حياتك وقانون صيانتك ، بافعل كذا ولا تفعل كذا . إذن : فساد الدنيا يأتي من أن الصنعة تريد أن تأخذ حق الصانع في تحديد الغاية ، وفي تحديد المنهج ، وقانون الصيانة ، وليس من مهمتها ذلك ، والخالق حينما يحدد لك الغاية يضع لك المنهج الذي يُعينك على غايتك ، إنما أنت : متى تستطيع أن تدرك الأشياء لتضع غاية أو تضع قانون الصيانة ؟ إنك لا يمكن أن تبلغ هذا المبلغ قبل سِنِّ العشرين على أحسن تقدير ، فمَنْ - إذن - يضع لك غايتك وقانون صيانتك قبل هذه السنِّ ؟ لا أحدَ غير خالقك عز وجل ، ولن يستقيم الحال إلا إذا تركنا الصَّنْعة للصانع غايةً ومنهجاً وصيانة . وكيف تظن أن الله تعالى خلقك عَبثاً ، وهو الذي استدعاك للوجود وأعدَّ لك مُقوِّمات حياتك وضرورياتها ، وحثَّك بإعمال عقلك في هذه المقومات لتستطيع أن تُرفِّه بالطاقة والقدرة المخلوقة لله تعالى لتُسعِدَ نفسك وتُرفِّه حياتك . وقد كنا في الماضي نجلس على ضوء المسرجة ، والآن على أضواء النيون والكريستال ، ومهما ترفهت حياتك وتوفرت لك وسائل الراحة فلا تنْسَ أنها عطَاء من الله في المادة وفي الطاقة وفي العقل المفكر ، كلها مخلوقة لله عزَ وجل ، لا تملك أنت منها شيئاً ، بدليل أن الله إذا سلبك العقل لَصِرت مجنوناً ، ولو سلبك الطاقة والقدرة لصرتَ ضَعيفاً لا تستطيع مجرد التنفس ، فهذه نِعَمٌ موهوبة لك ليست ذاتية فيك . إذن : عليك أن تتأمل في خالقك عز وجل ، وما وهبك من مقومات الحياة ، لتعلم أن هذا الخَلْق لا يمكن أن يكون عبثاً ، ولا بد أن له غاية رسمها الخالق سبحانه ، وأنت في ذاتك تحاول أن تضع لك غاية في جزئية ما من الغاية الكبرى التي خلقك الله لها . أَلاَ ترى الولد الصغير كيف تعتني به وتُعلِّمه وتنفق عليه مرحلة بعد الأخرى ، حتى يصل إلى الجامعة ، وتتعلق أنت بأمل كبير في أن يكون لولدك هذا مكانة في المجتمع ومنزلة بين الناس ؟ هذه العملية في حد ذاتها غاية ، لكن بعد أن يحصل على الوظيفة المرموقة والمكانة والمنزلة ينتهي الأمر بالموت . إذن : لا بُدَّ من وجود غاية أخرى أعظم من هذه ، غاية لا يدركها الفناء ، وليس لها بعد ، هذه الغاية الكبرى هي لقاء الله وملاقاة الجزاء ، إما إلى الجنة وإما إلى النار . وعلينا أن نأخذ كل مسائل الحياة وجزئياتها في ضوء هذه الحقيقة ، أننا لم نُخلَق عَبثاً ، بل لغاية مرادة لله ، ولها أسباب توصل إليها . ثم يقول سبحانه : { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] تُرجَعون يعني : رَغْماً عنكم ، ودون إرادتكم ، كأن شيئاً ما يسوقهم ، كما في قوله تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] يعني : يُدفعون إليها ، ويُضربون على أقفائِهم ، ويُسَاقون سَوْقَ الدواب .