Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 116-116)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَتَعَالَى … } [ المؤمنون : 116 ] تنزَّه وتقدَّس ، وكلمة العلو تعني علو المنزلة . نقول : علا فلان على فلان ، أما حين نقول : تعالى الله ، فالمراد العلو الأعلى ، وإن وهب علواً للغير فهو عُلو الداني ، وعلو المتغير ، بدليل أنه تعالى يُعليك ، وإنْ شاء سلبك ، فالعلو ليس ذاتياً فيك . وكلمة المِلك نعرفها فيمَنْ يملك قطعة من الأرض بمَنْ فيها ويحكم وله رعية ، ومن هذه المادة : المالك . ويُطلَق على أيِّ مالك لأيِّ شيء ، ولو لم يكن لديه إلا الثوب الذي يلبسه فهو مالك ، أما : المَلِك فهو مَنْ يملك الذين يملكون ، فله ملك على المالكين ، وهذا المَلِك لم يأخذ مُلْكه بذاته ، إنما بإيتاء الله له . لذلك يقول تعالى : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ … } [ آل عمران : 26 ] . فلو كان مُلْك هؤلاء الملوك ذاتياً ما نُزِع منهم ، أَلاَ ترى الملِك من ملوك الدنيا يقوى ويستتب له الأمر ، ويكون له صولجان وبَطْش وفَتْك … إلخ ، ومع كل هذا لا يستطيع الاحتفاظ بملكه ؟ وفي لحظة ينهار هذا الملْك ولو على يد جندي من جنوده ، بل وربما تلفظه بلاده ، ولا تقبل حتى أنْ يُدفن بها ، وتتطوع له بعض الدول ، وتقبل أنْ تُواري رفاته بأرضها ، فأيُّ ملك هذا ؟ وهذه آية من الآيات نراها في كل عصر - وكأنها قائمة - دليلاً على صدق الآية : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ … } [ آل عمران : 26 ] إذن : إنْ ملكك الله فاعلم أنه مُلْك موهوب ، مهما استتب لك فلا تضمن بقاءه لأن الله تعالى ملَّكك لغاية ، ولا يملك الغاية إلا هو سبحانه . لذلك كان الحق - سبحانه وتعالى - { ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ … } [ المؤمنون : 116 ] يعني : الذي لا يزحزحه أحد عن مُلْكه ، أو يسلبه منه ، وهو الذي يتصرّف في مُلْكه كيف يشاء لا ينازعه فيه أحد ، وإنْ أعطى من باطن مُلْكه تعالى مُلْكاً لأحد ، فيظل في يده سبحانه زمام هذا الملْك ، إنْ شاء بسطه ، وإنْ شاء سلبه ونزعه . فهو وحده الملك الحق ، أما غيره فمُلْكهم موهوب مسلوب ، وإنْ مَلَّك سبحانه أناساً . أَمْرَ أناس في الدنيا يأتي يوم القيامة فيقول : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ … } [ غافر : 16 ] . وتلحظ أن كلمة { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ … } [ آل عمران : 26 ] سهلة على خلاف { وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ … } [ آل عمران : 26 ] ، ففي النزع دليل على المشقة والمعاناة لأن صاحب الملْك يحاول أن يتمسك به ويتشبَّث وينازع ، لكن أينازع الله ؟ فقوله سبحانه : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ … } [ المؤمنون : 116 ] المراد : تعالى عن أن يكون خَلْقكم عَبثاً ، وتعالى عن أنْ تشردوا من قبضته ، أو تخرجوا عن نفوذه ، أو تستقِلُّوا بخَلْقكم عن سيطرته ، وتعالى أن تُفلتوا من عقابة أو تمتنعوا عنه لأنه لا إله غيره : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 116 ] . فالحق تبارك وتعالى يحكم في إطار : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 - 4 ] . فإذا قال لك شيئاً فاعلم أنه لا إله غيره يعارضه . والعرش : رمز لاستتباب الأمر للمالك لأنه ينشغل بتدبير مُلْكه والقَضاء على المناوئين له وتأديب أعدائه ، فإذا ما استتبّ له ذلك جلس على عرشه ، إذن : الجلوس على العرش يعني استقرارَ الأمور واستتباب أمر الملك لذلك فإن الحق سبحانه بعد أن خلق الخَلْق استوى على العرش . والعرش يفيد أيضاً السيطرة والتحكم ، وعَرْش الله عرش كريم لأنه تعالى عليك لا ليُذلّك ويهينك ، وإنما تعالى عليك ليعاليك إليه ويعطيك من فضله . كما سبق أنْ قُلْنا : إن من مصلحتنا أن يكون الله تعالى مُتكبِّراً ، ومن عظمة الحق سبحانه أن يكون له الكبرياء ، فساعة يعلم الجميع أن الكبرياء لله وحدة لا يتكبر أحد على أحد . يقول الحق سبحانه : { وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ الجاثية : 37 ] . لذلك يقولون في الأمثال : اللي ملوش كبير يشتري له كبير يعني : ليعيش في ظله ، فالحق - تبارك وتعالى - يتعالى لصالح خَلْقه . ومن ذلك ما قُلْناه في مسألة العبودية ، وأنها مكروهه ثقيلة إنْ كانت للبشر لأن السيد يأخذ خير عبده ، إنما هي محبوبة إنْ كانت لله تعالى لأن العبودية لله يأخذ العبد خير ربه . فإنْ كانت عروش الدنيا للسيطرة والتحكُّم في مصائر الناس وامتصاص دمائهم وأَخْذ خيراتهم ، فعرش ربك عَرْش كريم ، والكريم في كل شيء أشرف غاياته ، اقرأ قوله تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ الدخان : 25 - 26 ] . وحين يوصينا بالوالدين ، يقول سبحانه : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء : 23 ] . فالعرش الكريم أشرف غايات الملْك لأن الملْك ليس تسلُّطاً وقَهْراً ، إنما هو مَلْك لصالح الناس ، والحق - تبارك وتعالى - حينما خلق الحياة وزَّع فيها أسباب الفضل ، ولكنه جعل فيها القويّ القادر ، وجعل فيها الضعيف العاجز ، ثم أمر القوي أنْ يأخذ بيد الضعيف ، وأنْ يعوله ، فالكرم استطراق نفع القوى للضعيف ، فكل خَصلْة من خصال الخير توصف بالكرم . إذن : إياك أن تفهم أن عرش ربك للسيطرة والعُلو والجبروت لأنه عرش كريم . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ … } .