Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 24-24)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الملأ : من الملء يعني : الشيء الذي يملأ الشيء ، فالملأ يعني الذين يملأون العيون بشرفهم ومكانتهم وعظمتهم وأبهتِهم ، ومن ذلك قولهم : فلان مِلءُ العين ، أو مِلْءُ السمع والبصر ، ويقولون للرجل إذا بلغ في الحُسْن مبلغاً : فلان قَيْد العيون يعني : حين تراه لا تصرف بصرك إلى غيره من شِدَّة حسنه كأنه قيَّد بصرك نحوه . أما في المقابل فيقولون : فلان تتقحمه العين ولا تراه وكأنه غير موجود . إذن : الملأ : هم الذين يملؤون صدور المجالس أُبَّهة وفخامة ووجاهة وسيادة ، لكن ، لماذا هؤلاء بالذات هم الذين تعصَّبوا ضده وواجهوه ؟ قالوا : لأن منهج الله ما جاء إلا لإصلاح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر ، فالحق - تبارك وتعالى - يُنزِل منهجاً على لسان رسول أول ، ويطلب من قومه أن يُبلِّغوا منهج رسولهم من بعده ، لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على عِدَّة صور : فمنهم مَنْ يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب ، إلا أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما يتوب ويندم ، فزاجره من نفسه وواعظه من داخله ، وهؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً . ومنهم مَنْ يخرج على منهج ربه خروجاً لا رجعةَ له ولا زاجر ، وهذا نسميه بلغتنا فاقد يعني : لم يَعُدْ له زاجر من شرع ولا من ضمير . ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلاء الخارجين عن منهج الحق عليه أنْ يتصدَّى لهم ، ويقاطعهم ولا يودهم ولا يحترمهم ، وإلا لو ظَلَّ المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم ، ولو ظلَّ على مكانته في المجتمع لتمادى في غَيِّه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع ، ويعُمّ الفساد وتشيع الفوضى . ألاَ ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني : عائلة القاتل ، لا على القاتل وحده ؟ لماذا ؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو بدَتْ عنده بوادر الاعتداء لأنهم جميعاً سيحملون هذه التبعة . ونقول : خُصَّ الملأ بالذات لأنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع ، ومن مصلحتهم أنْ يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم لذلك هم أول مَنْ يقابلون الرسالات بالجحود والنكران . ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى : { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا … } [ هود : 27 ] . فهؤلاء الذين يُسمُّونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخَلْق والدين والقيم ، فما إنْ تسمع آذانهم عن رسالة إلا تلهَّفوا عليها وارتموا في أحضانها لأنها جاءت لتنقذهم لذلك يكونون أول مَنْ يؤمن . وإنْ جاء المنهج لإنصاف هؤلاء ، فقد جاء أيضاً لينزع من أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليهم ، فلا بُدَّ أن يواجهوه ويعاندوه . ومعنى : { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ … } [ المؤمنون : 24 ] كفروا : يعني جحدوا وجود الله { مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 24 ] فأول شيء صَدَّهم عن الرسول كونه بشراً ، إذن : فماذا كنتم تنتظرون ؟ وقد شرح هذا المعنى في قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] . ولا بُدَّ في الرسول أن يكون من جنس المرسَل إليهم ليصح أن يكون لهم أُسْوة ، فيقلدوه ويهتدوا به ، وإلا لو جاء الرسول مَلكاً فكيف تتحقق فيه القدوة ؟ وكيف تطيعونه وأنتم تعلمون أنه مَلَكٌ لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل ، وليست لديه شهوة ، ولا مُقوِّمات المعصية ؟ ولنفرض أن الله نزَّل عليكم ملَكاً ، فكيف ستشاهدونه وتتلقوْن عنه ؟ لا بُدَّ - إذن - أن يأتيكم في صورة رجل لتتمكنوا من مشاهدته والتلقِّي عنه ، وهكذا نعود في نقاش هذه المسألة إلى أنه رجل لذلك قال سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] وتظل الشبهة باقية . إذن : من الحُمْق أن نقول بأن يكون الرسول مَلَكاً . أما قولهم : { بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 24 ] نعم ، هو بشر ، لكن ليس كمثلكم ، فأنتم كاذبون في هذه المثلية ، لأنه بشر اصطفاه الله بالوحي لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم ، وأُعْطَى من الله فأقول : أنا لست كأحدكم " . ويقول تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [ فصلت : 6 ] ومن هنا كانت الأفضلية في أنه بَشر يُوحَى إليه ، وما بشريته إلا للإيناس والإلْف . ثم يتابع الحق سبحانه مقالة هؤلاء الكافرين من قوم نوح : { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } [ المؤمنون : 24 ] يتفضّل : يعني ينسب نفسه إلى الفضل والشرف والسيادة ليكون متبوعاً وهم تابعون { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } [ المؤمنون : 24 ] يعني : لو شاء أنْ يرسل رسولاً { لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [ المؤمنون : 24 ] أي : رسلاً ، وقد رَدَّ الله تعالى عليهم هذا القول ، فقال تبارك وتعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . ثم يقولون : { مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } [ المؤمنون : 24 ] المراد بهذا : يعني أن يأتي مَنْ يقول اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، لأن آباءنا الأولين كانوا يعبدون الأصنام ، ولم يأْتِ مَنْ يقول لنا هذا الكلام مثل نوح . وهذا دليل على أنهم مُقلِّدون للآباء ، ليس لديهم تفكير واستقلال في الرأي ينظرون به إلى الأشياء نظرة الحق والعدالة ، وفي موضع آخر قال تعالى عنهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] . ولو تأملنا حال المجتمعات ، ومنها مجتمعنا الذي نعيش فيه لوضح لنا كذب هؤلاء في ادعائهم التقليد للآباء ، كيف ؟ تأمل حال الأجيال المختلفة تجد كل جيل له رأيه وتطلعاته ورغباته التي ربما اختلف فيها الابن عن أبيه ، فالأبناء الآن لهم رأي مستقل ، فالولد يختار مثلاً الكلية التي يرغبها ، الملابس التي يحبها ، وإنْ خالفتْ رأي أبيه ، بل ويصل الأمر إلى اتهام الآباء بالجمود والتخلف إنْ لزم الأمر ، وهذا موجود في كل الأجيال . إذن : لماذا لم تقولوا في مثل هذه الأمور : إنا وجدنا آباءنا على أمة ؟ لماذا كانت لكم ذاتية ورأْيٌ مستقل في أمور الدنيا دون أمور الدين ؟ إنكم تتخذون الذاتية فيما يُلبِّي رغباتكم وشهواتكم وانحرافاتكم ، وتتخذون التقليد فيما يُقلِّل تكليفكم لأن التكليف سيُقيِّد هذه الرغبات والشهوات ويقضي على هذه الانحرفات لذلك يتمرد هؤلاء على منهج الله . لذلك ، نعجب لما نراه ونسمعه من حال أبنائنا اليوم ، وكيف أفلتَ الزمام من الآباء والأمهات ، فالشاب يسير على هواه في أمور انحرافية ، فإن وجَّهه أبوه أعرض عنه واتهمه بأنه من جيل قديم وقد ذهب زمانه بلا رجعة ، وقد تعدى الأمر من الأولاد إلى البنات ، فصِرْن أيضاً يتمردْنَ على هذه القيم ولا يهتممن بها . فقولهم : { مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } [ المؤمنون : 24 ] وقولهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } [ الزخرف : 23 ] هم كاذبون أيضاً في هذه المقولة لأنهم لو صَدَقوا لقلَّدوهم في كل شيء وما عليهم في أمور الدنيا وفي أمور الدين والقيم والأخلاق . لذلك الحق - تبارك وتعالى - يعالج هذه القضية في مواضع عدة من كتابه الكريم ، وبأساليب مختلفة ، منها قوله سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ … } [ البقرة : 170 ] . لأن هذا يريحهم من مشقة التكاليف ، وإنْ كانت العبادة : طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه ، فما أسهلَ عبادة الأصنام لأنها آلهة كما يدعون لكن ليس لها منهج ، وليس معها تكاليف ، فبأيِّ شيء أمرك الصنم ؟ وعن أيِّ شيء نهاك ؟ وماذا أعدَّ من جزاء لمن أطاعه ؟ وماذا أعدَّ من عقاب لمن عصاه ، إذن : معبود بلا منهج وبلا تكاليف ، وهذا دليل كذبهم في عبادة الأصنام وغيرها من آلهتهم . الم يقولوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] فهذا حُمْق وسَفَه وجهل لأن الكلام منطقياً لا يستقيم ، كيف تقولون نعبدهم وليس لهم منهج ، وليس لهم تكاليف ، والعبادة طاعة عابد لمعبود ؟ إذن : ما هو إلا خِوَاء وإفلاس عقديّ لذلك يردُّ الحق - تبارك وتعالى - عليهم فيقول سبحانه : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] . وفي موضع آخر يقول - سبحانه وتعالى - عنهم : { قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ … } [ المائدة : 104 ] وهذه أبلغ من سابقتها ، لأنهم يُصعِّدون كفرهم ويُصِرون عليه ، فقولهم : { بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } [ البقرة : 170 ] فلربما يراجعون أنفسهم فيهتدون إلى الحق ، ويخالفون الآباء . لكن هنا : { حَسْبُنَا … } [ المائدة : 104 ] يعني : كافينا ، ولن نغيره ولن نحيد عنه لذلك يأتي كل آية بما يناسبها : ففي الأولى قال تعالى رداً عليهم : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً } [ البقرة : 170 ] وفي الأُخْرى قال رداً عليهم : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً … } [ المائدة : 104 ] . فذكر العقل في الأولى لأن الإنسان يأتمر فيه بنفسه ، وذكر في الأخرى العلم لأن الإنسان في العلم يأتمر بعقله ، وعقل العلم أيضاً ، فالعلم - إذن - أوسع من العقل لذلك ذكره مع قولهم { حَسْبُنَا … } [ المائدة : 104 ] الدالة على المبالغة والإصرار على الكفر . كما نلحظ عليهم في قولهم : { مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا … } [ المؤمنون : 24 ] أن الغفلة قد استحكمت فيهم لأن نوحاً عليه السلام يعتبر الجد الخامس بعد آدم عليه السلام ، فبينهما فترة طويلة ، فكيف ما سمعوا طوال هذه الفترة برسول أو نبي ، يقول : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ؟