Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 27-27)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
استجاب الله تعالى دعاء نبيه نوح - عليه السلام - في النُّصْرة على قومه ، فأمره بأن يصنع الفلك . والفُلْك هي السفينة ، وتُطلق على المفرد والجمع ، قال تعالى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [ الشعراء : 119 ] وقال : { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ فاطر : 12 ] فدلَّتْ مرة على المفرد ، ومرة على الجمع . وقوله تعالى : { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا … } [ المؤمنون : 27 ] دليل على أن نوحاً - عليه السلام - لم يكن نجاراً كما يقول البعض ، فلو كان نجاراً لهداه عقله إلى صناعتها ، إنما هو صنعها بوحي من الله وتوجيهاته ورعايته ، كما قال سبحانه : { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [ طه : 39 ] فالمعنى : اصنع الفُلْك ، وسوف أوفقك إلى صناعتها ، وأهديك إلى ما يجب أن يكون ، وأُصحِّح لك إنْ أخطأت في وضع شيء في غير موضعه ، إذن : أَمَرْتُ وأَعَنْتُ وتابعتُ . والوحي : هو خطاب الله لرسوله بخفاء . ثم يقول تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } [ المؤمنون : 27 ] . وهنا لم يتعرض السياق للفترة التي صنع فيها نوح السفينة ، والتي جاءت في قوله تعالى : { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] ذلك لأنهم لا يعلمون شيئاً عن سبب صناعتها . وفي موضع آخر يُعْلِمنا - سبحانه وتعالى - عن كيفية صُنْعها فيقول : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [ القمر : 13 ] وقلنا : إن الدُّسُر : الحبال التي تُضَمُّ بها ألواح الخشب بعضها إلى بعض شريطة أن تكون جافة ، وتُضَم إلى بعضها بحكمة حتى إذا ما نزل الماء وتشرَّبت منه يزيد حجمها فتسدُّ المسام بين الألواح ، كما نراهم مثلاً يصنعون براميل الزيت من شرائح الخشب . وقد صنع أحدهم سفينة من البَرْدى بهذه الطريقة ، وسافر بها إلى أمريكا واستخدم فيها الحبال بدلاً من المسامير . ثم يقول سبحانه : { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا … } [ المؤمنون : 27 ] يعني : بإنجاء المؤمنين بك ، وإهلاك المكذبين { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } [ المؤمنون : 27 ] والتنور : هو الفرن الذي يخبزون فيه الخبز ، ويقال : إنه كان موروثاً لنوح من أيام آدم ، يفور بالماء يعني : يخرج منه الماء ، وهو في الأصل محلٌّ للنار ، فيخرج منه الماء وكأنه يغلي . لكن هل كل الماء سيخرج من التنور ؟ الماء سيخرج من كل أنحاء الأرض وسينزل من السماء ، وفوران التنور هو إيذان بمباشرة هذه العملية وبداية لها . إذا حدث هذا { فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } [ المؤمنون : 27 ] يعني : احمل وأدخل فيها زوجين ذكراً وأنثى من كل نوع من المخلوقات ، كما في قوله تعالى : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] يعني : أدخلكم ، وقال سبحانه : { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ … } [ القصص : 32 ] يعني : أدخلها ، وقال سبحانه : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } [ الحجر : 12 ] . ومن مادة سلك أخذنا في أعرافنا اللغوية . نقول : سلَّك الماسورة أو العين يعني : أدخل فيها ما يزيل سدَّتها . والتنوين في { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ … } [ المؤمنون : 27 ] يعني : من كل شيء نريد حِفْظ نوعه واستمراره لأن الطوفان سيُغرق كل شيء ، والحق - تبارك وتعالى - يريد أن يحفظ لعباده المؤمنين مُقوِّمات حياتهم وما يخدمهم من الحيوانات والأنعام وجميع أنواع المخلوقات الأخرى من كل ما يلِدُ أو يبيض . ومعنى { زَوْجَيْنِ } [ المؤمنون : 27 ] ليس كما يظنُّ البعض أن زوج يعني : اثنين ، إنما الزوج يعني فرد ومعه مثله ، ومنه قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ … } [ الأنعام : 143 - 144 ] . فسمَّى كلَّ فرد من هذه الثمانية زوجاً لأن معه مثله . هذا في جميع المخلوقات ، أما في البشر فلم يقُلْ زوجين ، إنما قال { وَأَهْلَكَ } [ المؤمنون : 27 ] أياً كان نوعهم وعددهم ، لكن الأهلية هنا أهلية نسب ، أم أهلية إيمانية ؟ الأهلية هنا يُراد بها أهلية الإيمان والاتباع ، بدليل أن الله تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى ، فقال على لسان نوح عليه السلام : { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي … } [ هود : 45 ] . فقال له ربه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] فبنوة الأنبياء بنوة عمل واتباع ، فإنْ جاءت من صُلْبه فأهلاً وسهلاً ، وإنْ جاءت من الغير فأهلاً وسهلاً . " لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن سلمان الفارسي : " سلمان منا آل البيت " " فقد تعدى أن يكون مسلماً إلى أن صار واحداً من آل البيت . وكذلك أدخل فيها أهلك من النسب بدليل أنه استثنى منهم : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ } [ المؤمنون : 27 ] وكان له امرأتان ، واحدة كفرت به وخانته هي وولدها كنعان ، والتي ذُكرت في قول الله تعالى في سورة التحريم : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا … } [ التحريم : 10 ] . وكنعان هو الذي قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وهذه اللقطة لم تذكر هنا لأن أحداث القصة جاءت مُفرَّقة في عِدَّة مواضع ، بحيث لو جُمعت تعطي الصورة العامة للقصة ، فإنْ قُلْتَ : فلماذا لم تأتِ مرة واحدة كما في قصة يوسف عليه السلام ؟ نقول : جاءت قصة يوسف كاملة في موضع واحد ليعطينا بها الحق - سبحانه وتعالى - نموذجاً للقصة الكاملة المحبوكة التي تدل على قدرته تعالى على الإتيان بالقصة مرة واحدة لمن أراد ذلك ، فإنْ أردتها كاملة فنحن قادرون على ذلك ، وها هي قصة يوسف ، إنما الهدف من القصص في القرآن هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] لأنه صلى الله عليه وسلم سيقابل مواقف تكذيب وعداء وعناد من قومه ، وسيتعرض لأزمات شديدة ويحتاج إلى ما يُسلِّيه ويُثبِّته أمام هذه الأحداث . لذلك جاءت لقطات القصص القرآني في عدة مواضع لتسلية رسول الله ، والتخفيف عنه كلما تعرَّض لموقف من هذه المواقف ، وبجَمْع هذه اللقطات المتفرقة تتكون لديك القصة الكاملة المستوية . وقد أدخل نوح معه زوجته الأخرى المؤمنة وأولاده : سام وحام ويافث وزوجاتهم ، فهؤلاء ستة ونوح وزوجه فهم ثمانية ، ومعهم اثنان وسبعون من المؤمنين وأصول الإيمان الباقي مع نوح عليه السلام . ولما كان الحكم بغرق مَنْ كفر من أهله أمراً لا استئناف فيه ، قال تعالى بعدها : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [ هود : 37 ] لكن ظلموا مَنْ ؟ ظلموا أنفسهم حين كفروا بالله ، والحق سبحانه يقول : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . صحيح أنت حين كفرت أخذتَ حقَّ الله في أنه واحد أحد موجود ، وإله لا معبود غيره ، وأعطيتَه لغيره ، لكن هذا الظلم لم يضر الله تعالى في شيء إنما أضرَّ بك وظلمتَ به نفسك ، ومنتهى الحُمْق والسفه أن يظلم الإنسان نفسه . ثم يقول سبحانة : { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ … } .