Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 32-32)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جاء بعد قوم نوح عليه السلام قوم عاد ، وقد أرسل الله إليهم سيدنا هوداً عليه السلام ، كما جاء في قوله تعالى : { وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً … } [ الأعراف : 65 ] وقد دعاهم بنفس دعوة نوح : { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ … } [ المؤمنون : 32 ] وقال لهم أيضاً : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ المؤمنون : 32 ] . إذن : هو منهج مُوحَّد عند جميع الرسالات ، كما قال سبحانه : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ … } [ الشورى : 13 ] . فدين الله واحد ، نزل به جميع الرسل والأنبياء ، فإنْ قلتَ : فما بال قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً … } [ المائدة : 48 ] . نقول : نعم ، لأن العقائد والأصول هي الثابتة التي لا تتغير : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، أمّا المنهج والشريعة الخاصة بالفروع فهي محلُّ التغيير بين الرسل لأنها أمور تتعلق بحركة الحياة ، والحق - تبارك وتعالى - يعطي لكل بيئة على لسان رسولها ما يناسبها وما يعالج أمراضها وداءاتها . والشِّرْعة : هي القانون الذي يحكم حركة حياتك ، أمّا الدين فهو الأمر الثابت والموحّد من قبل الله - عز وجل - والذي لا يملك أحد أنْ يُغيِّر فيه حرفاً واحداً . لذلك ، كانت آفة الأمم أنْ يجعلوا أنفسهم فِرَقاً مختلفة وأحزاباً متباينة ، وهؤلاء الذين قال الله فيهم : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ … } [ الأنعام : 159 ] . وتأمل : { فَرَّقُواْ دِينَهُمْ … } [ الأنعام : 159 ] ولم يقُلْ : فرّقوا شريعتهم ولا منهجهم ، ذلك لأن الدين واحد عند الله ، أمّا المناهج والشرائع فهي مجال الاختلاف على حَسْب ما في الأمة من داءات ، فهؤلاء كانوا يعبدون الأوثان ، وهؤلاء كانوا يُطفِّفون الكيل والميزان ، وهؤلاء كانوا يجحدون نِعَم الله … الخ . وسبق أنْ أوضحنا أن اختلاف الداءات في هذه الأمم ناتج عن العزلة التي كانت تبعدهم ، فلا يدري هذا بهذا ، وهم في زمن واحد . أمّا في رسالة الإسلام - هذه الرسالة العامة الخاتمة - فقد جاءت على موعد من التقاء الأمم وتواصل الحضارات ، فما يحدث في أقصى الشمال يعرفه مَنْ في أقصى الجنوب لذلك توحدت الداءات ، فجاء رسول واحد خاتم بتشريع صالح لجميع الزمان ولجميع المكان ، وإلى قيام الساعة . وآفة المسلمين في التعصُّب الأعمى الذي يُنزِل الأمور الاجتهادية التي ترك الله لعباده فيها حريةً واختياراً منزلةَ الأصول والعقائد التي لا اجتهادَ فيها ، فيتسرَّعون في الحكم على الناس واتهامهم بالكفر لمجرد الاختلاف في وجهات النظر الاجتهادية . نقول : من رحمة الله بنا أنْ جعل الأصول واحدة لا خلافَ عليها ، أما الفروع والأمور الاجتهادية التي تتأتّى بالفهم من المجتهد فقد تركها الله لأصحاب الفهم ، وينبغي أنْ يحترم كُلٌّ منّا فيها رأْي الآخر ، بدليل قول الله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ … } [ النساء : 83 ] . وإلا لو أراد الحق سبحانه لَمَا جعل لنا اجتهاداً في شيء ، ولجاءتْ كل مسائل الدين قهرية ، لا رَأْيَ فيها لأحد ولا اجتهاد ، أمّا الحق - سبحانه وتعالى - فقد شاءت حكمته أن يجمعنا جَمْعاً قهرياً على الأمور التي إنْ لم نجمع عليها تفسد ، أما الأمور التي تصلح على أي وجه فتركها لاجتهاد خَلْقه . فعلينا - إذن - أنْ نحترم رأي الآخرين ، وألاَّ نتجرأ عليهم بل لنحترم ما اختاره الله لنا من حرية الفكر والاجتهاد . وأُسْوتنا في هذه المسألة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلف هذه الأمة في غزوة الأحزاب ، فلما هَبَّتْ الريح على معسكر الكفار فاقتلعت خيامهم وشتتت شملهم وفَرُّوا من الميدان انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، لكن سرعان ما أمره ربه بالتوجه إلى بني قريظة لتأديبهم ، وأخبره - سبحانه وتعالى - أن الملائكة ما زالت على حال استعدادها ، ولم يضعوا عنهم أداة الحرب ، فجمع رسول الله الصحابة وقال لهم : " مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " . وفعلاً ، سار الصحابة نحو بني قريظة فيما بين العصر والمغرب ، فمنهم مَنْ خاف أنْ يدركه المغرب قبل أنْ يصلي العصر ، فصلى في الطريق ومنهم مَن التزم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بألاَّ يصلي إلا في بني قريظة ، حتى وإن أدركه المغرب ، حدث هذا الخلاف إذن بين صحابة رسول الله وفي وجوده ، لكنه خلاف فرعي ، لَمَّا رفعوه إلى رسول الله وافق هؤلاء ، ووافق هؤلاء ، ولم ينكر على أحد منهم ما اجتهد . إذن : في المسائل الاجتهادية ينبغي أن نحترم رأي الآخرين لذلك فالعلماء - رضي الله عنهم - وأصحاب الفكر المتزن يقولون : رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأْي غيري خطأ يحتمل الصواب . فليت المسلمين يتخلصون من هذه الآفة التي فرَّقتهم ، وأضعفتْ شوكتهم بين الأمم . ليتهم يذكرون دائماً قول الله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ … } [ الأنعام : 159 ] . ولما تكلم الحق - تبارك وتعالى - عن مسألة الوضوء ، قال سبحانه : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ … } [ المائدة : 6 ] . نلحظ أنه تعالى عند الوجه قال { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ … } [ المائدة : 6 ] دون أن يحدد للوجه حدوداً ، لماذا ؟ لأن الوجه لا خلافَ عليه بين الناس ، لكن في الأيدي قال : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ … } [ المائدة : 6 ] فحدد اليد إلى المرفق لأنها محل خلاف ، فمن الناس مَنْ يقول : الأيدي إلى الكتف . ومنهم مَنْ يقول : إلى المرفق . ومنهم مَنْ يقول : هي كف اليد . لذلك حدَّدها ربنا - عز وجل - ليُخرِجنا من دائرة الخلاف في غَسْل هذا العضو ، ولو تركها - سبحانه وتعالى - دون هذا التحديد لكانَ الأمر فيها مباحاً : يغسل كل واحد يده كما يرى ، كذلك في الرأس قال سبحانه : { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ … } [ المائدة : 6 ] وتركها لاحتمالات الباء التي يراها البعض للإلصاق ، أو للتعدية ، أو للتبعيض . إذن : حين ترى مخالفاً لك في مثل هذه الأمور لا تتهمه لأن النص أجاز له هذا الاختلاف ، وأعطاه كما أعطاك حقَّ الاجتهاد . ثم قال الحق سبحانه : { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي … } .