Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 64-64)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يعني : بعد أن أشركوا بالله وكفروا به ، وبعد أنْ أصبحتْ قلوبهم في غمرة وعمىً إذا مسَّهم شيء من العذاب يجأرون ويصرخون ، ومَنْ ذا الذي يطيق لفحة أو رائحة من عذاب الله ؟ ومعنى { أَخَذْنَا … } [ المؤمنون : 64 ] كلمة الأخذ لها مجال واسع في كتاب الله ، والأَخْذ : هو الاستيلاء بعنف على شيء هو لا يحبّ أنْ تستولي عليه ، والأَخْذ يُوحي بالعنف والشدة ، بحيث لا يستطيع المأخوذ الإفلات مهما حاول . ومن ذلك قوله تعالى : { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 42 ] يعني : أخذاً شديداً يتململ منه فلا يستطيع الفكاك . وقوله : { وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيْحَةُ … } [ هود : 67 ] . ويقول : { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] . ومعنى : { مُتْرَفِيهِمْ … } [ المؤمنون : 64 ] من الترف وهو التنعُّم لأن الحياة تقوم على ضروريات تستبقي الحياة وكماليات تُسعدِها وتُرفِّهها وتُثريها ، فالمتْرَف مَنْ عنده من النعيم فوق الضروريات ، يقال : ترِف الرجل يتَرف من باب فَرِح يفرح ، وأترفته النعمة إذا أطغته ، وأترفه الله يعني : وسّع عليه النعمة وزاده منها . وعلى قدر الإتراف يكون الأخذ أبلغَ والألم أشدَّ . وسبق أن ذكرنا قول الله عز وجل : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ … } [ الأنعام : 44 ] يعني : من منهج الله ، لم نُضيِّق عليهم إنما : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ … } [ الأنعام : 44 - 45 ] . فهنا تكون النكاية أشدّ ، والحسرة أعظم . والكلام هنا عن كفار قريش ، فكيف أخذهم الله وهم في ترف من العيش ، حيث تصبُّ عندهم كل خيرات الجزيرة حتى عاشوا عيشة الترف والتنعم ؟ أخذهم الله حال ترفهم بالقَحْط والسنين لذلك لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أُترفوا بالنعمة وطغَوْا بها قال : " اللهم اشْدُدْ وطأتك على مُضَر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " . واستجاب الله تعالى دعاء نبيه ، فأصابهم الجدب والقَحْط حتى أكلوا الجيف و العِلْهز وهو شعر الذبيحة أو وبرها المخلوط بدمها بعد أنْ جَفَّ وتجمد تحت حرارة الشمس ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ … } [ المؤمنون : 64 ] . وقوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ … } [ المؤمنون : 64 ] . يصرخون ويضجّون ، فهذا أبو سفيان بعد أن أكلوا الجيف والفضلات يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ألستَ رحمةً للعالمين ؟ إذن : فادْعُ الله أنْ يُفرِّج عنا ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه حتى فرج عنهم . أو : يراد بالعذاب هنا ما حدث لهم يوم بدر ، حيث أذلَّهم الله ، فقتل منهم مَنْ قتل ، وأسر مَنْ أسر ، وانهارت سيادتهم وضاعت هيبتهم ، وقد كانوا يُعذِّبون المؤمنين ويقتلونهم ، ويقيمونهم في حَرِّ الشمس ويضعون الأحجار الكبيرة فوق بطونهم ، حتى أنزل الله تعالى في هذه الحالة القاسية التي يعانيها المؤمنون : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] . فيستقبلون الآية بتعجُّب : حتى يقول عمر : أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم ، فليس هناك أيّ بادرة لنصر المؤمنين ، فلما جاء يوم بدر ورأى المؤمنون ما حاق بالكافرين قال عمر نفسه : صدق الله ، سيُهزم الجمع وقد هُزِم . وقوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } [ المؤمنون : 64 ] يجأر : يصرخ بصوت عالٍ ، والإنسان لا يصرخ إلا إذا كان في محنة لا تقدر أسبابه على دفعها ، فيصرخ طلباً لمن ينجده ، ويرفع صوته ليُسمِع كل مَنْ حوله ، كما يقولون يجعر . والجؤار مثل الخوار يعني : يصيحون مثل العجول بعد ما كانوا رجالاً وسادة وطغاة ، فلماذا لم تظلّوا سادة ، لماذا تصرخون الآن ؟ وكان المنتظر منهم في وقت الشدة أنْ يتماسكوا ، وأن يتجلّدوا حتى لا يشمت بهم العبيد والفقراء الذين آمنوا ، كما يقول الشاعر : @ وتجلُّدِي للِشَّامِتينَ أُرِيهُمو أَنِّي لريْبِ الدهْرِ لا أتضعْضَعُ @@ لكن ، هيهات فقد حاق بهم العذاب ، ولن يخدعوا أنفسهم الآن ، فليس أمامهم إلا الصراخ يطلبون به المغيث والمنجي من المهالك . ثم يقول الحق سبحانه : { لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ إِنَّكُمْ … } .