Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 63-63)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ بَلْ … } [ المؤمنون : 63 ] حرف يدل على الإضراب عن الكلام السابق ، وإثبات الحكم للكلام بعدها . والغَمْرة كما قلنا : هي جملة الماء الذي يعلو قامة الإنسان حتى يمنع عنه التنفس ويحرمه الهواء ، وهو أول مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة . فالإنسان يصبر على الطعام شهراً ، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام لعشرة ، إنما لا يصبر على النَّفَس إلا بمقدار ما يحتويه الصدر من الهواء ، فإنْ كان كانت رئتك سليمة تتسع لأكبر كمية من الهواء ، وتستطيع أنْ تتحمل عدم التنفس لفترة أطول ، أما إن كانت الرئة مُعتَلّة ، فإنها لا تتسع لكمية كبيرة ، وسرعان ما ينتهي الهواء ويموت الإنسان . ومن التنفس جاءت المنافسة ، كما في قوله تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 26 ] ثم استُعمِلَتْ لكل عمل تُنافِس فيه غيرك لأن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة . لذلك الخالق - عز وجل - حينما خلق هذه البِنْية الإنسانية جعل لها نظاماً فريداً في وقودها وغذائها على خلاف صَنْعة البشر ، فلو منعتَ البنزين مثلاً عن السيارة توقفتْ ، أمّا صنعة الخالق - عز وجل - فالجسم يأخذ حاجته من الطعام والماء ، ثم يختزن الباقي لوقت الحاجة ، وقد علم الحق سبحانه شهوتك وحبك للطعام وللشراب ، وأخذْك منهما فوق حاجتك ، فإنْ غاب عنك الطعام تغذَّى جسمك من هذا المخزن الرباني . لذلك نرى البعض حين يتأخر عنه الطعام يقول : نفسي انصدت عن الأكل ، والحقيقة أنه أكل فعلاً ، وتغذى من مخزون الطعام والشراب في جسمه . ومن حكمة الله أن الطعام الفائض يُختزن في صورة واحدة هي الشحم ، الذي يتحول تلقائياً إلى أيِّ عنصر آخر يحتاجه الجسم ، فإذا انتهى الشحم تغذّى الجسم على اللحم والعضلات ، ثم على العظام ، وهي آخر مخزن للقوت في جسم الإنسان لذلك جاء في قصة زكريا عليه السلام : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] . أما الهواء فليس له مخزن إلا بقدْر ما تتسع له الرئة ، فإذا نفد منها الهواء بشهيق وزفير فلا حيلة فيه ، ومن رحمة الله بعباده ألاّ يُملِّك الهواء لأحد ، فقد يملك الطعام وربما يملك الماء ، أمّا الهواء الذي يحتاجه في كل نفَس ، فقد جعله الله مِلْكاً للجميع ، حتى لا يمنعه أحد عن أحد لأنك لا تستطيع أن تحتال له كما تحتال للطعام وللشراب ، ولو غضب عليك مالك الهواء لمتّ قبل أنْ يرضى عنك . ونلحظ هنا أن الغمرة لا تحتويهم هم ، إنما تحتوي القلوب : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ … } [ المؤمنون : 63 ] وهذه بلوى أعظم لأن القلب محلٌّ لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل ، ويُميِّز بينها ويختار منها ويُرجّح ، ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى هَدْيها تسير في حركة الحياة . لذلك إنْ كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشدّ والبلاء أعظم لأنه مُسْتودع العقائد والمبادئ التي تُنير لك الطريق . والقلب هو محلُّ نظر الله إلى عباده ، لذلك يقول سبحانه : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا … } [ الأعراف : 179 ] . وقال سبحانه : { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ … } [ البقرة : 7 ] لأنهم أحبوا الكفر واطمأنوا إليه ، ولأنه سبحانه ربٌّ متولٍّ ربوبية الخلق ، يعطيهم ما أراداوا حتى إنْ كان كفراً لذلك ختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر لأنهم عشقوا الكفر وأحبّوه . لذلك نقول لأهل المصائب الذين يُصابون في غَالٍ أو عزيز فيحزنون عليه ، ويبالغون بإقامة المآتم والسرادقات ، ويقيمون ذكرى الخميس والأربعين وغيرها ، وربما كان الابن عاقاً لوالديه في حياتهما ، فإذا مات أبوه أو أمه أقام المآتم وشغل الناس ، وهو كما قال الشاعر : @ لاَ أَعْرِفنَّك بعْد الموتِ تَنْدِبني وفِي حََيَاتي مَا بَلَّغْتَني زَادَا @@ أو الأم التي فقدت وحيدها مثلاً ، فتعيش حزينة مُكدّرة ، وكأنها عشقتْ الحزن وأحبّته ، نحذر هؤلاء وننصح كل حزين أن يُغلق باب الحزن بمسامير الرضا والتسليم ، فالحزن إنْ رأى بابه مُوارباً دخل وظَلّ معك ولازمك . وسبق أن وضحنا أن الحق سبحانه لا يرفع بلاءً عن عبده حتى يرضى به ، ولنا القدوة في هذه المسألة بأبينا إبراهيم - عليه السلام - حين ابتلاه ربه بذبح ولده في رؤيا رآها ، واعتبرها هو تكليفاً ، ورضي بقدر الله وسلم لأمره ، ثم أخبر ولده ووحيده بهذه الرؤيا حتى لا يحرمه هذا الأجر ولا يأخذه على غِرّة ، فيتغير قلبه عليه : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [ الصافات : 103 - 107 ] . فبعد أن رضي إبراهيم وولده بقضاء الله رفع عنهما البلاء ، وجاءهما الفداء من الله لإسماعيل ، بل وزاده بأنْ بشّره بولد آخر هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، أجيال متعاقبة جاءتْ فضلاً من الله وجزاءً على الرضا بقضائه وقدره ، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا الموقف : @ سَلِّمْ لربك حُكْمه فَلحكْمةٍ يَقْضِيِه حتّى تسْتريح وتَغْنَما واذكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْح ابنهِ إذْ قالَ خالقُه فَلمّا أسْلَما @@ إذن : إذا كانت القلوب نفسها في غمرة ، فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ ، وينشأ عن خرابه خراب حركة الحياة وانحراف السلوك . وقد أخذ القلب هذه الأهمية لأنه معمل الدم ، ومصدر سائل الحياة ، فإنْ فسدَ لا بُدَّ أنْ ينضح على باقي الجوارح ، فتفسد هي الأخرى ، ولو كان القلب صالحاً فلا بُدّ أنْ ينضحَ صلاحه على الجوارح كلها فتصلح ، كما جاء في الحديث الشريف : " ألا إن في الجسد مُضْغة إذا صَلُحت صَلُح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " . ثم يقول سبحانه : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ المؤمنون : 63 ] يعني الأمر لا يتوقف بهم عند مسألة العقائد ، إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها ، فالحق سبحانه لا يذكر لهم إلا قمم المخالفات ونماذج منها ، إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا ويفعلون كذا ، وإنْ كانوا هم أنفسهم لا يعلمون أن ذلك سيحدث منهم لكن ربهم - عز وجل - يعلم بطلاقة القدرة ما كان وما سيكون . ومن عجائب قدرة الله أنه سبحانه يحكم على عبده الكافر أنه سيعمل كذا وكذا ، ومع ذلك لم يعاند أحد الكفار ، فيقول : إن الله حكم عليَّ بكذا ، ولكني لن أفعل فيكون حكم الله عليه غير صحيح لأن الحق سبحانه لا يتحكم فيما يجريه علينا فحسب ، وإنما في اختيار العبد ومراده ، مع أن العبد حُرٌّ في أن يفعل أو لا يفعل . وهذه القضية واضحة في قوله تعالى عن أبي لهب : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [ المسد : 1 - 3 ] فقوله : { سَيَصْلَىٰ نَاراً … } تفيد المستقبل ، فقد حكم الحق سبحانه عليه أنه سيكون في النار ، وكان أبو لهب في أمة ومَجْمع من القوم الكافرين ، ومنهم مَنْ آمن فمن يضمن أن يسمع أبو لهب هذا الحكم ومع ذلك لا يؤمن ويموت كافراً ؟ ثم ألم يَكُنْ بإمكان هذا المغفل أن يقف على ملأ ويقول : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ويدخل في الإسلام ، فيكون الحكم فيه غير صحيح ؟ لكن هذا كلام الله وحكمه القديم لا يُردّ ولا يخالفه أحد مهما كان أمره في يده وهو قادر على الاختيار ، هذا من طلاقة قدرة الله في فِعْله وعلى خَلْقه في أفعالهم . فالمعنى : { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ المؤمنون : 63 ] حكم لا يُرد ولا يُكذَّب ، حتى وإنْ أخبر به صاحبه لأن علم الله تعالى مستوعبٌ لما كان ولما سيكون ، وكأن الحق سبحانه يقول : إن طلاقة القدرة ليست فيما أفعله فحسب ، إنما يفعله غيري مِمَّنْ أعطيتُه حرية الاختيار . ثم يقول الحق سبحانه : { حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ … } .