Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 78-78)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق - سبحانه وتعالى - يقول : خلقتُ عبادي من عدم ، وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من عدم ، ثم جعلتُ لهم منهجاً ينظم حركة حياتهم ويصُون بنيتهم ، لأن صاحب الصنعة أعلم بصنعته ، وأعلم بما يصلحها ، ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها ، فالذي صنع الثلاجة مثلاً هل صنعها أولاً ثم قال لنا : انظروا في أيِّ شيء تفيدكم هذه الآلة ؟ لا ، إنما قبل أن يصنعها حدّد مهمتها ، والغاية منها ، وكذلك خلق الله ، ولله المثل الأعلى . والذي خلق وحَدَّد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد ، ويجعلها تؤدي مهمتها على أكمل وجه ، فإنْ خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطّل عن أداء مهمتك التي خلقت لها ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أنْ تردوه إلى الله وإلى الرسول ، كما ترد الآلة إلى صانعها العالم بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها ، ونستنبط من هذه المسألة : إذا رأيتَ خللاً في الكون أو فساداً في ناحية من نواحيه ، وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرتْ فاعلم أن حُكْماً لله قد عُطِّل . فمثلاً إنْ رأيتَ فقيراً جائعاً عارياً فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله تعالى : { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } [ الملك : 15 ] أو : أن القادرين العاملين حرموه حقّه الذي جعله الله له في أموالهم ، وخالفوا قوله تعالى : { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] . لذلك ، فالحق - سبحانه وتعالى - يُجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة ويسُدُّ حاجة المحتاجين ، كما نرى مثلاً أحد الأثرياء يترك بلده ، وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله وثرواته ، وليس هناك سبب لهذه النقلة إلا أنها خاطر سلَّطه الله عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع ، ولو حسبتها لوجدتَ أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين ، فانتقل إلى بلد آخر قلَّت فيه الأموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين . وبعد ذلك لم يتركك ربك ، بل عرض لك الآيات التي تلفتك إليه ، وتُحنِّنك إلى التعرُّف عليه ، وهي إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة الله تعالى ، أو معجزات تثبت صِدْق الأنبياء في البلاغ عن الله لأن الله تعالى لا يخاطب عباده كل واحد بمفرده ، إنما يرسل رسولاً ليُبلِّغهم ثم يُؤيِّده بالمعجزة الدالة على صِدْقه في البلاغ . فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك لا تعرف مَنْ هو هذا الخالق يأتي الرسول ليقول لك : إنه الله ، وقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى : هَبْ أن أحداً دَقَّ الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث ؟ نتفق نحن جميعاً على أن طارقاً بالباب . لكن مَنْ هو ؟ لا أحد يعلم . فالاتفاق هنا في التعقُّل ، وأن هناك قوةً خلف الباب تدقّه ، لكن مَنْ هو ؟ وماذا يريد ؟ لا بُدَّ لمعرفة هذه المسائل من بلاغ عن هذه القوة ، وإياك أنْ تقول بالظن : هذا فلان وأنا أقول هذا فلان ، إنما علينا أن ننتظر البلاغ منه لنعرف مَنْ هو ، وما عليك إلا أنْ تقول : مَنْ بالباب وسوف يخبرك هو عن نفسه ، وعن سبب مجيئه ، وماذا يريد . ثم بعد ذلك تأتي الآيات التي تحمل منهج الله ، وتخبرك أنه يريد منك كذا وكذا . الشاهد : أن هذه الآيات كلها تحتاج إلى وسائل لإدراكها ، تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها ، ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها لذلك يقول سبحانه : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ … } [ المؤمنون : 78 ] . السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطاً الحواس الخمس الظاهرة أي : أن هناك حواسَّ أخرى لم يكتشفوها ، وفعلاً اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل ، وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلاً ، فهذه الأشياء لا تستطيع التعرّف عليها بالحواسِّ الخمس المعروفة . وعُمْدة الحواس : السمع والبصر لأنه إذا جاءني رسول يُبلِّغني عن الله لا بُدَّ أن أسمع منه ، فإنْ كنتَ مؤمناً بإله فقد اكتفيتَ بحاسة السمع ، وإنْ كنتَ غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته الدالة على وجوده وقدرته ، وتستدل بالصَّنْعة على الصانع ، وبالخِلْقة على الخالق ، وتقف على ما في كوْن الله من الدقة والإحكام والهندسة والإبداع . وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك ، كما لو رأيتَ النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكوَّنت لديك قضية عقلية مُؤدّاها أن النار لها خاصية الإحراق فلا تلمسها بعد ذلك ، وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن الشطة مثلاً فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه . فإن رآه بعد ذلك يقول أوف ، فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكوَّنَتْ لديه نتيجة تجربة استقرتْ في فؤاده ، وأخذها مبدأً يسير عليه في كل حياته ، وهكذا من المحسّات ومن تجارب الحياة تتكوَّن لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد . إذن : من وسائل الإدراك تتكوَّن المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل ، ويفاضل بينها حتى ينتهي إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونُسمِّيها عقيدة يعني : شيء معقود عليه لا ينحلّ . وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يُرتِّبها دائماً هذا الترتيب : السمع والبصر والفؤاد لأنها عُمْدة الحواس ، فالشمُّ مثلاً والتذوق واللمس لا نحتاج إليه إلا قليلاً ، أما السمع والبصر فعليهما تقوم مسألة الدعوة : السمع لسماع البلاغ ، والبصر لنرى آيات الله الدالة على قدرته تعالى . وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدلُّ على أنه ترتيب من خالق عن حكمة وعلم وقدرة ، بحيث لا يأتي واحد منها قبل الآخر ، كما أثبت علماء وظائف الأعضاء صِدْق هذا الترتيب ، فأوّل أداة تؤدي مهمتها في الإنسان هي الأذن ثم العين ، وتعمل من ثلاثة إلى عشرة أيام من الولادة ، ثم من السمع والبصر توجد القضايا التي يعمل فيها العقل . إذن : فهذا ترتيب خَلْقي وتكويني . كما أن السمع وهو أول حاسّة تؤدي مهمتها في الإنسان هو أيضاً الإدراك الوحيد الذي يصاحب الإنسان في كل أطواره ، فالأذن تسمع مثلاً حتى في حالة النوم على خلاف العين ذلك لأن بالسمع يتم الاستدعاء ، لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال النوم . كما أن العين لا ترى في الظلام ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية ، وليست الأذن كذلك ، فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الآذان ، أما المرئيّ فقد يوجد معك في نفس المكان ولا تراه وقد يراه غيرك ، إذن : فالمسموع واحد والمرائي متعددة ، لذلك قال سبحانه : { ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ … } [ المؤمنون : 78 ] . فليس لك خيار في السمع ، لكن لك خيار في الرؤية ، فالمبصرات تتعدد بتعدُّد الأبصار ، لكن السمع لا يتعدد بتعدُّد الأسماع . لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن الله تعالى ضرب على آذانهم في الكهف ليناموا ولا تزعجهم الأصوات في هذه الصحراء الدويّة ، ولو بقي لهم السمع كشأن الخَلْق جميعاً لما استقر لهم قَرَار طوال هذه الفترة الطويلة ، ولأفزعتهم الأصوات . يقول الحق سبحانه وتعالى : { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } [ الكهف : 11 ] . كذلك من آيات الإعجاز في القرآن الكريم أن جميع الآيات التي ذكرتْ السمع والبصر ذكرتْه بهذا الترتيب : السمع والأبصار ، إلا في آية واحدة في موقف القيامة قالوا : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا … } [ السجدة : 12 ] . فقدَّم البصر على السمع لأن في القيامة تفجؤهم المرائي أولاً قبل أنْ تفجأهم الأصوات ، وهذه من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز . وكأن الحق سبحانه يقول : لا عُذْر لك عندي فقد أعطيتُك سمعاً لتسمع البلاغ عني من الرسول ، وأعطيتُك عَيْناً لتلتفت إلى آيات الكون ، وأعطيتُك فؤاداً تفكر به ، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلُّك على وجود الخالق عز وجل . إذن : ما أخذتُك على غِرَّة ، ولا خدعتُك في شيء ، إنما خلقتُك من عدم ، وأمددتُك من عُدم ، ورتبتُ لك منافذ الإدراك ترتيباً منطقياً تكوينياً ، فأيُّ عذر لك بعد ذلك … وإياكم بعد هذا كله أنْ تشغلكم الأهواء ، وتصْرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا . والمتأمل في تركيب كل من الأذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق - عز وجل - ما يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدُّم العلوم إلى أسرارها وكُنْهها . ثم يقول سبحانه في ختام الآية : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ المؤمنون : 78 ] لأن هذه نِعَم وآلاء وآيات لله ، كان ينبغي أن تشكر حَقَّ الشكر . البعض يقول في معنى { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ المؤمنون : 78 ] أنه تعالى عبَّر عن عدم الشُّكْر بالقلة ، وهذا الفهم لا يستقيم هنا لأن الله تعالى أثبت لعباده شكراً لكنه قليل ، وربك - عز وجل - يريد شكراً دائماً يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك ، فساعة ترى الأعمى الذي حُرِم نعمة البصر يتخبَّط في الطريق تقول الحمد لله ، تقولها هكذا بالفطرة لأنك تعيش وتتقلب في نعَم الله ، لكن لا تتذكرها إلا حين ترى مَنْ حُرِم منها . لذلك ، إنْ أردتَ أنْ تدوم لك النعمة فاعقلها بِذكْر الله المنعم قُلْ عند النعمة ، أو عند رؤية ما يعجبك في أهل أو مال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، أَلاَ ترى أن الله تعالى جعل الحسد لينبهنا : إنْ أردتَ صيانة النعمة فلا تنسَ المنعِمَ لأنه وحده القادر على حِفْظها وصيانتها ، كما نشتري الآن آلة ، ونتفق مع صانعها على صيانتها صيانةً دورية مقابل أجر معين . كذلك إنْ قُلْتَ عند النعمة : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، فلن ترى فيها سوءً أبداً ، لأنك أيقظتَ بـ " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " قانون صيانتها ، وجعلتَ حفظها إلى مَنْ صنعها . ولا يُصاب الإنسان في النعمة إلا إذا غفل عن المنعِم وترك الشُّكْر عليها . وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن الله ، وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات التقليدية ، وفي أحد الأعوام زرعه قطناً ، فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه ، فكلَّمه والدي في مسألة الدودة هذه فقال له : يا عم متولي لا تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني : أُخرِج منها الزكاة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ … } .