Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 80-80)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يُحْيِي وَيُمِيتُ … } [ المؤمنون : 80 ] فِعْلان لا بُدَّ أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت ، فالخالق - عز وجل - يُوجِد الحياة أولاً ، ويوجد الموت ، ثم يجري حدثاً منهما على ما يريده . والحياة سبقتْ الموت في كل الآيات ، إلا في آية واحدة في سورة تبارك : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ … } [ الملك : 2 ] وعِلَّة ذلك أن الله تعالى يعطي للإنسان بالحياة إرادةً تُنشِىء الحركة في كل أجهزته ، ولك أن تتأمل : ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك ؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك يدك أو قدمك ؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه الحركات ، ودون أن تباشر أي شيء . إذن : بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك ، فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بلا معالجة ، فكيف نستبعد هذا في حقِّه - سبحانه وتعالى - ونكذب أنه يقول للشيء : كُنْ فيكون ، مع أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الإرادة ، ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئاً ، والله سبحانه وتعالى يقول للشيء : كُنْ فيكون ، وأنت تفعل دون أن تقول . وقد قدَّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الآية : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ … } [ الملك : 2 ] لأن الحياة ستُورث الإنسانَ غروراً في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى ، فأراد ربه - عز وجل - أن يُنبهه : تذكّر أنني أميتُ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها ، فيستقيم في حركة الحياة . وصفة الخَلْق والإماتة صفات لله قديمة قبل أنْ يخلق شيئاً أو يميت شيئاً لأنها صفات ثابتة لله قبل أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا ، ولله المثل الأعلى : الشاعر حين يقول قصيدة قالها لأنه شاعر ولا نقول : إنه شاعر لأنه قال هذه القصيدة ، فلولا صفة الشعر فيه ما قال . وكما أن الحياة مخلوقة ، فالموت كذلك مخلوق ، وقد يقول قائل : إذا أطلقتَ رصاصة على شخص أردَتْهُ قتيلاً فقد خلقتَ الموت . نقول : الحمد لله أنك لم تدَّع الإحياء واكتفيتَ بالموت ، لكن فَرْق بين الموت والقتل ، القتل نَقْض للبِنْية يتبعه إزهاق للروح ، أما الموت فتخرج الروح أولاً دون نَقْض للبنية . لذلك يقول سبحانه : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ … } [ آل عمران : 144 ] . والنمرود الذي حَاجَّ إبراهيم - عليه السلام - في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الآخر ، وادَّعى أنه أحيا هذا ، وأمات هذا ، وكانت منه هذه الأعمال سفسطة لا معنى لها ، ولو كان على حَقٍّ لأمرَ بإحياء هذا الذي قتله لذلك قطع عليه إبراهيم - عليه السلام - هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر لا يستطيع المراوغة فيه . إذن : هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح لأن للروح مواصفات خاصة ، بحيث لا تحل إلا في بنية سليمة ، وقد أوضحنا هذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بلمبة الكهرباء ، فقوة الكهرباء كامنة في الأسلاك لا نرى نورها إلا إذا وضعنا اللمبة مكانها ، ويكون لها مواصفات بحيث لا تضيء إلا إذا توفرتْ لها هذه الصفات ، فإنْ كُسِرَت ينطفىء نورها . ثم يقول تعالى : { وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ … } [ المؤمنون : 80 ] الليل يحل بغياب الشمس وحلول الظُّلْمة التي تمنع رؤية الأشياء ، وقديماً كانوا يظنون أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من العين على المرئي ، ثم جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ، فأثبت خطأ هذه النظرية ، وقرر أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من المرئيّ على العين فتراه ، بدليل أنك لا ترى الشيء إنْ كان في الظلام . وظُلْمة الليل تنبهنا إلى أهمية الضوء الذي لا بُدَّ منه لنهتدي إلى حركة الحياة ، والإنسان يواجه خطورة إنْ سار في الظلام لأنه إمَّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه ، أو بأقوى منه فيؤلمه ويؤذيه . إذن : لا بُدَّ من وجود النور لتتم به حركة الحياة والسَّعْي في مناكب الأرض ، وكذلك لا بُدَّ من الظُّلْمة التي تمنع الإشعاع عن الجسم ، فيستريح من عناء العمل ، وقد أثبت العلم الحديث خطر الإشعاعات على صحة الإنسان . لذلك يقول تعالى : { وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ … } [ المؤمنون : 80 ] فجعلهما يختلفان ويتعاقبان ليؤدي كل منهما وظيفته في الكون ، يقول تعالى : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [ الليل : 1 - 2 ] وطالما أن لكل منهما مهمته ، فإياك أن تقلب الليل إلى نهار ، أو النهار إلى ليل لأنك بذلك تخالف الطبيعة التي خلقك الله عليها ، وانظر إلى هؤلاء الذين يسلكون هذا المسلك فيسهرون الليل حتى الفجر ، وينامون النهار حتى المغرب ، وكم أحدثوا من فساد في حركة الحياة ، فالتلميذ ينام في الدرس ، والعامل ينام ويُقصِّر في أداء عمله . والنبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله : " … أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " لأن الجسم لا يأخذ راحته ، ولا يهدأ إلا في الظلمة ، فيصبح الإنسان قوياً مستريحاً نشيطاً ، واقرأ قول الله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [ النبأ : 10 - 11 ] . ومن دِقَّة الأداء القرآني أن يراعي هؤلاء الذين يعملون ليلاً ، وتقتضي طبيعة أعمالهم السَّهَر ، مثل رجال الشرطة وعمال المخابز وغيرهم ، فيقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ … } [ الروم : 23 ] فالليل هو الأصل ، والنهار لمثل هؤلاء الذين يخدمون المجتمع ليلاً لذلك عليهم أن يجعلوا من النهار ليلاً صناعياً ، فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ ليأخذ الجسم حظه من الراحة والهدوء . إذن : الليل والنهار ليسا ضِدّيْن ، إنما هما خَلْقان متكاملان لا متعاندان ، وهما كالذكَر والأنثى ، يُكمل كل منها الآخر ، لا كما يدَّعي البعض أنهما ضدان متقابلان لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل إذا يغشى ، وبالنهار إذا تجلَّى ، قال : { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [ الليل : 3 - 4 ] فالليل والنهار كالذكر والأنثى لكل منهما مهمة في حركة الحياة . واختلاف الليل والنهار من حيث الضوء والظُّلْمة والطول والقِصَر وفي اختلاف الأماكن ، فالليل لا ينتظم الكون كله ، وكذلك النهار ، فحين يكون عندك لَيْل فهو عند غيرك نهار ، يقول تعالى : { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ … } [ فاطر : 13 ] . وينتج عن هذا تعدُّد المشارق والمغارب بتعدُّد الأماكن بحيث كل مشرق يقابله مغرب ، وكل مغرب يقابله مَشْرق ، لدرجة أنهم قالوا : ينشأ ليل ونهار في كل واحد على مليون من الثانية . وينشأ عن هذا كما قلنا استدامة ذِكْر الله على مدى الوقت كله ، بحيث لا ينتهي الأذان ، ولا تنتهي الصلاة في الكون لحظة واحدة ، فأنت تصلي المغرب ، وغيرك يصلي العشاء … وهكذا . إذن : فالحق سبحانه يريد أن يكون مذكوراً في كل الكون بجميع أوقات الصلاة في كل وقت . حتى إن أحد الصوفية وأهل المعرفة يقول مخاطباً الزمن : يا زمن وفيك كل الزمن . يعني : يا ظهر وفيك عصر ومغرب وعشاء وفجر ، لكن عند غيري . ومن اختلاف الليل والنهار ينشأ أيضاً الصيف الحار والشتاء البارد ، والحق سبحانه وتعالى كلف العبيد كلهم تكليفاً واحداً كالحج مثلاً ، وربط العبادات كلها بالزمن الهجري ، فالصيف والشتاء يدوران في الزمن ، ويتضح هذا إذا قارنت بين التوقيت الهجري والميلادي ، وبذلك مَنْ لم يناسبه الحج في الصيف حَجَّ في الشتاء لأن اختلاف التوقيت القمري يُلون السنة كلها بكل الأجواء . لذلك قالوا : إن ليلة القدر تدور في العام كله لأن السابع والعشرين من رمضان يوافق مرة أول يناير ، ومرة يوافق الثاني ، ومرة يوافق الثالث ، وهكذا . ومن اختلاف الليل والنهار أنهما خِلْفة ، كما قال تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] . فنحن نرى الليل يخلُف النهار ، والنهار يخلُف الليل ، لكن احكم القضية في كل أطوار زمنها ، فما دام الحق - سبحانه وتعالى - جعل الليل والنهار خِلْفة ، فلا بُدَّ أن يكون ذلك من بداية خلقهما ، فلو وُجِد الليل أولاً ثم وُجِد النهار ، فلا يكون الليل خِلْفة لأنه لم يسبقه شيء ، فهذا يعني أنهما خُلقا معاً ، فلما دار الزمن خلف بعضهما الآخر ، وهذا لا ينشأ إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة ، بحيث يجتمع فيها الليل والنهار في وقت واحد ، فالذي واجه الشمس كان نهاراً ، والذي واجه الظلمة كان ليلاً . ثم يقول سبحانه : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ المؤمنون : 80 ] لأن هذه المسائل كان يجب أن تعقلوها خاصة ، وقد كانت اختلافات الأوقات مَبْنية على التعقل ، أما الآن فهي مَبْنية على النقل ، حيث تقاربت المسافات ، وصِرْنا نعرف فارق التوقيت بيننا وبين جميع أنحاء العالم بالتحديد . كذلك كان الناس في الماضي ينكرون نظرية كروية الأرض ، حتى بعد أن التقطوا لها صوراً أظهرت كرويتها وجدنا من مفكرينا من ينكر ذلك . ونقول : لماذا نقف هذا الموقف من نظريات ثابتة قد سبق قرآنُنَا إلى هذا القول ؟ ولماذا نعطي الآخرين فكرة أن ديننا يغفل هذه المسائل ، مع أنه قد سبق كل هذه الاكتشافات ؟ ولو تأملتَ قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلأَرْضَ … } [ الرعد : 3 ] لوجدت فيه الدليل القاطع على صِدْق هذه النظرية لأن الأرض الممدودة هي التي لا تنتهي إلى حافة ، وهذا لا يتأتّى إلا إذا كانت الأرض كروية بحيث تسير فيها ، لا تجد لها نهاية حتى تصل إلى الموضع الذي منه بدأت ، ولو كانت الأرض على أي شكل آخر غير الكروي مثل المربع أو المستطيل لكان لها نهاية . لكن لم تتوفر لنا في الماضي الآلات التي تُوضِّح هذه الحقيقة وتُظهرها . إذن : الحق سبحانه في قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ المؤمنون : 80 ] ينبهنا إلى ضرورة إعمال العقول في المسائل الكونية لأنها ستوفر علينا الكثير في الطريق إلى الله عز وجل ، ولماذا يُعمِل الإنسان عقله ويتفنّن مثلاً في ارتكاب الجرائم فَيُرتب لها ويُخطط ؟ لكن الله تعالى يكون له بالمرصاد فيُوقِعه في مَزْلَق ، فيترك وراءه منفذاً لإثبات جريمته ، وثغرة تُوصِّل إليه لذلك يقول رجال القضاء : ليست هناك جريمة كاملة ، وهذه مهمة القاضي أو المحقق الذي يحاور المجرم ليصل إلى هذه الثغرة . وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول : لقد استخدمتَ عقلك فيما لا ينبغي ، وسخَّرْته لشهوات نفسك ، فلا بُدَّ أن أوقعك في مزلق ينكشف فيه أمرك ، فإنْ سترتها عليك مرة فإياك أنْ تتمادى ، أو تظنّ أنك أفلتَّ بعقلك وترتيبك وإلاَّ أخذتُك ولو بجريمة لم تفعلها لأنك لا تستطيع أن تُرتِّب بعقلك على الله ، وعدالته سبحانه فوق كل ترتيب . كما لو فُضِح إنسان بأمر هو منه بريء ، ولحقه الأذى والضرر بسبب هذه الإدانة الكاذبة ، فتأتي عدالة السماء فيستر الله عليه فضيحة فعلها جزاءً لما قد أصابه في الأولى ، وهذه مسألة لا يفعلها إلا رب . والحق - سبحانه وتعالى - حينما يُنبِّه العقل ويثيره : تفكّر ، تدبّر ، تعقّل ، ليدرك الأشياء الكونية من حوله ، فهذا دليل على أنه سبحانه واثق من صَنْعته وإبداعه لكونه لذلك يثير العقول للبحث وللتأمل في هذه الصنعة . وهذه المسألة نلاحظها فيمَنْ يعرض صَنْعته من البشر ، فالذي يتقن صَنْعته يعرضها ويدعوك إلى اختبارها والتأكد من جودتها على خلاف الصنعة الرديئة التي يلفّها لك صانعها ، ويصرفك عن تأملها حتى لا تكشف عيبها . فحين ينبهك ربك إلى التأمل في صَنْعته فعليك أنْ تدرك المغزى من هذه الإثارة لتصل إلى مراده تعالى لك . ثم يقول الحق سبحانه : { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ … } .