Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 92-92)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
العلم : إدراك قضية أو نسبة واقعة مجزوم بها وعليها دليل ، ولا يصل إلى العلم إلا بهذه الشروط ، فإنْ كانت القضية مجزوماً بها وواقعة ، لكن لا تستطيع أن تُدلِّل عليها كالطفل حين يقول : الله أحد ، فهذا تقليد كما يُقلِّد الولدُ أباه أو مُعلمه ، فهو يُقلِّد غيره في هذه المسألة إلى أنْ يوجد عنده اجتهاد فيها ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها . فإنْ كانت القضية مجزوماً بها وليست واقعة ، فهذا هو الجهل ، فليس الجهل كما يظن البعض ألاَّ تعلم ، إنما الجهل أن تجزم بقضية مناقضة للواقع . لذلك تجد الجاهل أشقّ وأتعب لأهل الدعوة وللمعلمين من الخالي الذهن الذي لا يعرف شيئاً ، ليست لديه قضية بدايةً ، فهذا ينتظر منك أن تُعلِّمه ، أمّا الجاهل فيحتاج إلى أن تُخرِج من ذِهْنه القضية الخاطئة أولاً ، ثم تضع مكانها الصواب . والغيب : المراد به الغيب المطلق يعني : ما غاب عنك وعن غيرك ، فنحن الآن مشهد لمن حضر مجلسنا هذا ، إنما نحن غيب لمن غاب عنه ، وهذا غيْب مُقيد ، ومنه الكهرباء والجاذبية وغيرهما لأن هذه الأشياء كانت غَيْباً عَمَّنْ قبلنا مع أنها كانت موجودة ، فلما توصلنا إلى مقدماتها ظهرت لنَا وصارت مشهداً لذلك قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ … } [ البقرة : 255 ] . فأثبت الإحاطة للناس لكن بشرط مشيئته تعالى ، فإنْ شاء أطلعهم على الغيب ، وأوصلهم إلى معرفته حين يأتي أجل ميلاده وظهوره . إذن : المعلوم لغيرك وغَيْب عنك ليس غيباً ، وكذلك الغيب عنك وله مقدمات تُوصِّل إليه ليس غيباً ، إنما الغيب هو الغيب المطلق الذي غاب عنك وعن غيرك ، والذي قال الله تعالى عنه : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ … } [ الجن : 27 ] . والشهادة : يعني المشهود ، لكن ما دام الحق سبحانه يعلم الغيب ، فمِنْ باب أَوْلَى يعلم المشهود ، فلماذا ذكر الشهادة هنا ؟ قالوا : المعنى : يعلم الغيب الذي غيِّب عني ، ويعلم الشهادة لغيري . ومن ناحية أخرى : ما دام أن الله تعالى غيْب مستتر عنا ، وهناك كوْن ظاهر ، فربما ظن البعض أن المستتر الغيب لا يعلم إلا الغيب ، فأراد - سبحانه وتعالى - أن يؤكد على هذه المسألة ، فهو سبحانه غيب ، لكن يعلم الغيب والشهادة . ونرى من الناس مَنْ يحاول أن يهتك ستار الغيب ، ويجتهد في أن يكشف ما استتر عنه ، فيذهب إلى العرافين والمنجِّمين وأمثالهم ، وهو لا يدري أن الغيب من أعظم نِعَم الله على خَلْقه ، فالغيب هو علة إعمار الكون ، وبه يتم التعامل بين الناس ، ذلك لأن الإنسان ابن أغيار ، كثير التقلُّب ، ولو علم كل منا وكُشِف له ما عند أخيه لتقاطع الناس ، وما انتفع بعضهم ببعض . لذلك يقولون : لو تكاشفتم ما تدافنتم . يعني : لو كُشِف لك عما في قلب أخيك لَضننْتَ عليه حتى بدفنه بعد موته . إذن : فجَعْل هذه المسائل غَيْباً مستوراً يُحنِّن القلوب ، ويثري الخير بين الناس ، فينتفع كل منهم بالآخر ، وإلا لو عَلِمتَ لواحد سيئة ، وعرفتَ موقفه العدائي منك لكرهتَ حتى الخير الذي يأتيك من ناحيته ، ولتحرك قلبك نحوه بالحقد والغل ، وما انتفعتَ بما فيه من حسنات . لذلك ، نقول لمن يبحث عن غيْب الآخرين : إنْ أردتَ أن تعرف غَيْب غيرك ، فاسمح له أن يعرف غَيْبك ، ولن تسمح له بذلك ، إذن : فدَعْ الأمر كما أراده الله ، ولا تبحث عن غَيْب الآخرين حتى تستقيمَ دفّة الحياة . وربك دائماً يلفتك إلى النظر إلى المقابل ، ففي الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، دعوت على مَنْ ظلمك ، ودعا عليك مَنْ ظلمته ، فإنْ شئت أجبناك وأجبنا عليك ، وإن شئت تركتكما إلى الآخرة فيسعكما عفوي " . فالحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يُصفِّي نفوس الخَلْق ، وأن يقف الناس عند حدود ما أطلعك الله عليه ، ولا تبحث عن المستور حتى لا تتعب نفسك ، حتى تواجه مشاكل الحياة بنفسٍ صافية راضية عنك وعن الناس . ثم يقول تعالى : { فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ المؤمنون : 92 ] لأن ما تشركونهم مع الله لا يعلمون شيئاً من هذا كله ، لا غَيْباً ولا شهادة لذلك لا ينفعك إنْ عبدتْه ، ولا يضرك إنْ لم تعبده . ثم يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي … } .