Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 99-100)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذلك لمجرد أن تحضره سكرات الموت ويُوقِن أنه ميّت تتكشف له الحقائق ويرى ما لا نراه نحن ، كما جاء في قوله تعالى : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] . فيتمنى الإنسان أن يرجع إلى الدنيا وهو ما يزال يحتضر ، لماذا ؟ لأنه رأى الحقيقة التي كان ينكرها ويُكذِّب بها ، والذين يشاهدون حال الموتى ساعة الاحتضار يروْنَ منهم إشارات تدلّ على أنهم يروْنَ أشياء لا نراها نحن ، كُلٌّ حَسْب حاله وخاتمته . وأذكر حين مات أبي ، وكان على صدري ساعتها أنه قال لي : يا أمين - وهذا اسمي في بلدي - كيف تبني كل هذه القصور ولا تخبرني بها ؟ والجنود الذين صاحوا في المعركة : هُبِّي يا رياح الجنة . لا بُدَّ أنهم رأوها وشَمُّوا رائحتها ، وإلا ما الذي جعلهم يتلهفّون للموت ، ويشتاقون للشهادة إلا أنهم يرون حالاً ينتظرهم أفضل مما هم فيه . ومن هؤلاء الصحابي الجليل الذي حدثَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهداء عند الله ، وكان في يده تمرات أو في فمه يمضغها ، فقال : يا رسول الله ، أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فأُقتل في سبيل الله ؟ قال : نعم ، فألقى التمرة من فمه ومضى إلى المعركة . كأنه استكثر أن يقعد عن طلب الجنة مدة مَضْغ هذه التمرات . فإلى هذه الدرجة بلغ يقينُ هؤلاء الرجال في الله وفي رسول الله . ونلحظ في هذه الآية : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ … } [ المؤمنون : 99 ] هكذا بصيغة المفرد { قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } [ المؤمنون : 99 ] جاء بالجمع على سبيل التعظيم ، ولم يقل : ربِّ ارجعني ، كما جاء في قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . فهنا الحق - تبارك وتعالى - يُعظِّم ذاته ، لكن هذا يُعظِّم الله الآن ، وهو في حال الاحتضار ، وقد كان كافراً به ، وهو في سَعَة الدنيا وبحبوحة العيش . أو : أنه كرر الطلب : أرجعني أرجعني أرجعني ، فجمعها الله تعالى . أو : أنه استغاث بالله فقال : ربّ ثم خاطب الملائكة : ارجعون إلى الدنيا . لكن ، لماذا الرجوع ؟ { لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : أنني تركتُ كثيراً من أعمال الخير ، فلعلِّي إنْ رجعتُ بعد أنْ عاينتُ الحقيقة أستدرك ما فاتني من الصالحات ، أو لعلِّي أعمل صالحاً فيما تركتُ ، لأنني ضننْتُ بمالي وبمجهودي وفَضْلي على الناس ، وكنْزتُ المال الكثير ، وتركتُه خلفي ثم أُحاسب أنا عليه ، فإنْ عُدت قدمته وأنفقته فيما يدخر لي ليوم القيامة . ثم تأتي الإجابة : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا … } [ المؤمنون : 100 ] أي : قوله : ارجعون لعلِّي أعمل صالحاً فيما تركت ، إنها مجرد كلمة لا واقع لها ، كلمة يقولها وقت الضيق والشدة ، فالله تعالى لن يرجعهم ، ولو أرجعهم ما فعلوا لذلك نفاها بقوله كلا التي ترد على قضايا تريد إثباتها ، ويريد الله تعالى نفيها كما ورد في سورة الفجر : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [ الفجر : 15 - 16 ] . فيرد الحق سبحانه : كلا لا أنت صادق ولا هو ، فليس المال والغِنَى وكثرة العَرض دليل كرامة ، ولا الفقر دليل إهانة ، فكلتا القضيتين خطأ ، بدليل أنك إذا أعطاك الله المال ، ثم لا تؤدي فيه حَقَّ الله وحَقَّ العباد ، ولا يعينك على أداء ما فُرِض عليك صار المال وبالاً عليك وإهانة لا كرامة . ما جدوى المال إنْ دخلتَ في قوله تعالى : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } [ الفجر : 17 ] ؟ ساعتها سيكون مالك حُجَّة عليك . كذلك الحال مع مَنْ يظن أن الفقر إهانةٌ ، فإنْ سلب الله منك المال الذي يُطغيك فقد أكرمك ، وإنْ كنت لا تدري بهذا الإكرام . ثم يقول سبحانه : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] أي : كيف يتمنوْنَ الرجوع وبينهم وبينه برزَخ يمنعهم العودة إلى الدنيا لذلك تُسمَّى الفترة بين الحياة الدنيا والآخرة بالحياة البرزخية ، فليست من الدنيا ، وليست من الآخرة . وفي موضع آخر يُصوِّر الحق سبحانه هذا الموقف بقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ … } [ الأنعام : 28 ] أي : لو رددناهم من الآخرة لعادوا لما كانوا عليه من معصية الله ، وإنْ كانت هذه قضية عقلية ففي واقعهم ما يثبت صِدْق هذه القضية ، واقرأ فيهم قول الله تعالى : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ … } [ الإسراء : 83 ] فأخذ نعمة الله وتقلَّب فيها ، ثم تنصَّل من طاعة الله . ويقول تعالى في هذا المعنى أيضاً : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ … } [ يونس : 12 ] . إذن : المسألة اضطرارات ، كلما اضطروا دَعَوا الله ولجئوا إليه ، وتوسَّلوا ، فخذوا من واقع حياتهم ما يدل على صِدْق حكمي عليهم لو عادوا من الآخرة . والبرزخ : هو الحاجز بين شيئين ، وهذا الحاجز يأخذ قوته من صاحب بنائه ، فإنْ كان هذا الحاجز من صناعته - سبحانه وتعالى - فلن ينفذ منه أحد . ومن ذلك قوله تعالى : { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19 - 20 ] وما داما يلتقيان ، فما فائدة البرزخ هنا ؟ قالوا : نعم يلتقيان ، ولا يبغي أحدهما على الآخر لأن المسألة ليست سَدَّاً أو بناءً هندسياً ، إنما برزخ خاصٌّ لا يقدر عليه إلا طلاقة القدرة الإلهية التي خرقتْ النواميس ، فجعلتْ الماءَ السائلَ جبلاً ، بعد أن ضربه موسى بعصاه ، فصار كل فِرْق كالطود العظيم ، طلاقة القدرة التي فجرت الحجر عيوناً . إذن : المسألة ليست ميكانيكا كما يظن البعض . والبرزخ بين الماء المالح والماء العَذْب آية من آيات الله شاخصة أمامنا ، يمكننا جميعاً أنْ نتأكد من صحة هذه الظاهرة . لكن هذا البرزخ من أمامهم ، فلماذا قال تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] . قالوا : لأن اللفظ الواحد يُطلق في اللغة وله معَانٍ عدَّة واللفظ واحد لذلك يُسمُّونه المشترك ، فمثلاً كلمة عَيْن تطلق على العين الباصرة ، وعلى عين الماء ، وعلى الجاسوس ، وتُقال للذهب وللفضة ، وللرجل البارز في قومه ، والسياق هو الذي يُحدِّد المعنى المراد لذلك على السامع أن تكون عنده يقظة ليردّ اللفظ إلى المعنى المناسب لسياقه . وكذلك كلمة النجم فتعني الكوكب في السماء ، وتعني كذلك مَا لا ساقَ له من النبات ، وهو العُشْب الذي ترعاه البهائم ، ومنه قول الشاعر : @ أُرَاعي النجْمَ في سَيْري إليكُمُ ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوَادِيَ @@ فكلمة وراء تُطلَق ويُراد بها معانٍ عدة ، قد تكون متقابلة يُعيِّنها السياق ، فتأتي وراء بمعنى بَعْد كما في قوله تعالى : { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] وتأتي بمعنى غَيْر كما في قوله تعالى : { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } [ المؤمنون : 7 ] . وتأتي بمعنى أمام كما قوله تعالى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] فالملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة قادمة . وكذلك في قوله تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] . فقوله تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] أي : أمامهم . ثم يقول الحق سبحانه : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ … } .