Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 101-101)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الصُّور : البُوق الذي ينفخ فيه إسرافيل ، والمراد هنا النفخة الثانية للبعث . والأنساب : جمع نَسَب ، وهو الالتقاء في أصل مباشر ، كالتقاء الابن بالأب ، أو الأب بالابن ، أو التقاء بواسطة كالعمومة والخؤولة . والنسب هو أول لُحمة في الكون تربط بين الناس في مصالح مشتركة ، وهو الالتقاء الضروري الذي يوجد لكل الناس ، فقد لا يكون لك أصدقاء ولا أصحاب ولا زملاء عمل ، لكن لا بُدَّ أن يكون لك نَسَب وقرابة وأهل . فحين ينفي الحق - سبحانه وتعالى - النسب يقول : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ … } [ المؤمنون : 101 ] فليس النفي لوجود النسب ، فإذا نُفِخ في الصور منعت البُنوَّة من الأبوة ، أو الأبوة من البنوة . إنما النسب موجود حقيقة ، لكن لأن النسب المعروف فيه التعاون على الخير والتآزر في دفع الشر ، فالنفي هنا لهذه المنفعة في هذا اليوم بالذات حيث لا ينفع أحد أحداً ، فالنسب موجود لكن دون نفع ، فالنفع من أمور الدنيا أن يُوجد قوي وضعيف ، فالقوي يُعين الضعيف ، ويفيض عليه ، أمّا في هذا الموقف فالكل ضعيف . كما قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34 - 37 ] . ويقول : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] . لذلك حينما حدَّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا سنُحشر يوم القيامة حُفَاة عُراة تعجبت السيدة عائشة ، واستحيتْ من هذا الموقف ، فأخبرها رسول الله أن الأمر ليس كذلك ، فهذا موقف ينشغل كُلٌّ بنفسه ، والحال أصعب من أن ينظر أحد لأحد . إذن : النفي لنفع الأنساب ، لا للأنساب نفسها . وإنْ كان نفع الأنساب يمتنع لهول الآخرة فقد يتسامى الإنسان فيمنع نفعه حتى في الدنيا عن ذوي قرابته إنْ كانوا غير مؤمنين ، وقد ضربها الله مثلاً في قصة نوح - عليه السلام - وولده ، وخاطبه ربه : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ … } [ هود : 46 ] فامتنع النسب حتى في الدنيا ، فالنبوة ليست بُنوة الدم واللحم ، البنوة - خاصة عند الأنبياء - بنوة عمل واتباع . وإذا تأملتَ تاريخ المسلمين الأوائل لوجدتهم يعتزُّون بالإسلام ، لا بالأنساب ، فالدين والعقيدة هما اللُّحمْة ، وهما الرابطة القوية التي تربط الإنسان بغيره ، وإنْ كان أدنى منه في مقاييس الحياة . قرأنا في قصة بدر أن مصعب بن عمير - رضوان الله عليه - وكان فتى قريش المدلل ، وأغنى أغنيائها ، يلبس أفخر الثياب ويعيش ألين عيشة ، فلما أُشرِب قلبه الإيمان زهد في كل هذا النعيم ، وحُرِم من خير أهله ، ثم هاجر إلى المدينة ، وهناك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس جلد شاة فقال : " انظروا ماذا فعل الإيمان بأخيكم " . وفي المعركة ، رأى مصعب أخاه أبا عزيز أسيراً في يد واحد من الأنصار هو الصحابي أبو اليَسَر فقال له مصعب : اشدد على أسيرك - يعني : إياك أن يفلت منك - فإن أُمَّه غنية ، وستفديه بمال كثير ، فنظر أو عزيز إلى مصعب وقال : أهذه وصاتك بأخيك ؟ فقال : هذا أخي دونك . إذن : فلا أنسابَ بينهم ، حتى في الدنيا قبل الآخرة . وفي غزوة أحد استُشهد مصعب بن عمير ، ولم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا ثوباً قَصيراً ، إنْ غطى رأسه انكشفتْ رِجْلاه ، وإنْ غطّى رِجْلَيْه انكشفت رأسه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " غطوا رأسه ، واجعلوا على رِجْلَيْه من الإذخر " . والسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان لما أسلمتْ وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة ، لكن اتهمها البعض بأنها هاجرت لا من إجل دينها ، ولكن من أجل زوجها ، فيشاء الله تعالى أن يُظهِر براءتها ، فينتصَّر زوجها عبيد الله بن جحش هناك وتظل هي على الإيمان ، ولَما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرها أراد أن يعوضها فخطبها لنفسه ، ولم ينتظر إلى أن تجيء ليعقد عليها ، فوكّل النجاشي ملك الحبشة ليعقد له عليها . وبعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أبوها سفيان زيارتها ، وكانت تمهِّد فراش رسول الله ، فلما أراد أبو سفيان أن يجلس عليه نَحَّتْهُ جانباً ، ومنعتْه أن يجلس - وهو كافر - على فراش رسول الله ، فقال : أضنَاً بالفراش عليَّ ؟ فقالت : نعم . إذن : نَفْع الأنساب يمتنع في الدنيا قبل امتناعه في الآخرة ، لكن الحق - سبحانه وتعالى - تفضّل بأن أبقى مطلوبات النسب في الدنيا ودعانا إلى الحفاظ عليها حتى مع الكافرين لأنه سبحانه وَسِع الكافر ، فعلى المؤمن أن يسعه من باب أَوْلَى ، فإنْ رأيت الكافر في شدة وقدرت أن تُعينه فَأعِنْه . واقرأ في هذا قوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً … } [ لقمان : 15 ] . فهما كافران ، بل ويريدانك كافراً ، ومع ذلك احفظ لهما حَقَّ النسب ، ولا تقطع الصلة بهما . ويُرْوَى أن إبراهيم - عليه السلام - وقد أعطاه الله الخُلَّة ، وقال عنه : { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [ النجم : 37 ] وابتلاه بكلمات فأتمهُنَّ ، مرَّ عليه عابر سبيل بليل ، فقبل أن يُدخِله ويُضيفه سأله عن ديانته ، فأخبره أنه غير مؤمن ، فأعرض عنه إبراهيم - عليه السلام - وتركه ينصرف ، فأوحى الله إليه : يا إبراهيم وسعْتُ عبدي وهو كافر بي ، وتريده أن يغير دينه لضيافة ليلة ؟ فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به ، وأخبره بما كان من عتاب ربه له في شأنه ، فقال الرجل : نِعْم الرب الذي يعاتب أحبابه في أمر أعدائه ، وشهد أن لا إله إلا الله وأن إبراهيم رسول الله . ويرتقي أهل المعرفة بالنسب ، فيروْنَ أنه يتعدَّى الارتباط بسبب وجودك ، وهو الأب أو الأم ، فالنسب وإن كان ميلاد شيء من شيء ، أو تفرُّع شيء من شيء ، فهناك نسب أعلى ، لا لمن أوجدك بسبب ، وإنما لمن أوجدك بلا سبب الوجود الأول ، فكان عليك أن تراعي هذا النسب أولاً الذي أوجدك من عدم ، وإنْ أثبت حقاً للوالدين لأنهما سبب وجودك . فكيف بالموجد الأعلى ؟ وقوله تعالى : { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] سأل : تقتضي سائلاً ومسئولاً ، أمّا الفعل تساءل فيدل على المفاعلة يعني : كل منهما سائل مرة ، ومسئول أخرى ، كما تقول : شارك محمد عمرًا ، وقاتل … الخ . وقد اعترض على هذه الآية بعض المستشرقين الذين يحبون أن يتوركوا على كتاب الله ، قائلين : إن المسلمين ينظرون إلى كتاب الله بمهابة وتقديس يمنعهم ويحجب عقولهم عن تعقُّل ما فيه ، لماذا وقد قال تعالى عن القرآن : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ؟ يقول هؤلاء : إن القرآن نفى التساؤل في هذه الآية ، وأثبته في قوله تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الطور : 25 ] في الحوار بين الكفار . وهناك تساؤل بين المؤمنين والكافرين : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } [ المدثر : 38 - 46 ] . ومرة يكون التساؤل بين المؤمنين بعضهم وبعض : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } [ الطور : 25 - 28 ] . إذن : كيف بعد ذلك ينفي التساؤل ؟ ويقول : { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] . وهذا التضارب الذي يروْنَه تضارب ظاهري لأنه هناك فرقاً بين أن تسمع عن شيء وبين أن تُفاجأ به وأنت غير مؤمن ، لقد قالوا : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [ المؤمنون : 37 ] . فحين فُوجئوا بالنفخ في الصُّور ، وداهمتهم القيامة التي كانوا يُكذِّبون بها بُهِتوا ودُهِشُوا ، وخرست ألسنتهم عن الكلام من شدة دهشتهم ، وكيف وما كانوا ينكرونه ماثل أمامهم فجأة ، ثم يتدرجون من هذه الحالة إلى أن يأخذوه أمراً واقعاً لا مَفرَّ منه ، فيبدأون بالكلام ويسأل بعضهم بعضاً عَمَّا هم فيه وعَمَّا نزل بهم . إذن : فالسؤال له زمن ، ونَفْي السؤال له زمن لذلك يقولون في مثل هذه المسألة أن الجهة مُنفكَّة ، فإذا رأيتَ شيئاً واحداً أُثبتَ مرة ، ونُفِي أخرى من قائل واحد منسوب إلى الحكمة وعدم التضارب ، فاعلم أن الجهة مُنفكّة . ومثل هذا الموقف من أهل الاستشراق وقفوه أيضاً في سؤال أهل المعاصي ، حيث يقول تعالى في إثبات سؤالهم : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ويقول في نفي سؤالهم { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] فكيف يثبت الفعل وينفيه ، والفاعل واحد ؟ وهذا الاعتراض منهم ناشىء عن عدم فَهْم للغة القرآن والمَلَكة العربية ، أو لأنهم يريدون مجرد الاستدراك على كتاب الله وإثارة الشكوك حوله . لكن رُبَّ ضارَّة نافعة ، فقد حرّكت شكوكهم ومآخذهم علماء المسلمين للتصدِّي لهم ، وللرد على أباطيلهم وكشف نواياهم ، فمثلنا كمثل الذي يستعد لملاقاة المرض بالطُّعْم المناسب الذي يعطي للجسم مناعة وحصانة ضد هذا المرض . وسيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان القرآن ينطق على وَفْق ما يريد ، يرى الناس يُقبِّلون الحجر الأسود ، فتوقع أن يتكلم الناس في هذه المسألة ، وكيف أن الدين ينهاهم عن عبادة الأصنام وهي حجارة ويأمرهم بتقبيل الحجر ، وكان رضي الله عنه يُقبّله ويقول : " والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبّلك ما قبَّلتك " . فلفت الناس إلى أصل التشريع وأن الحجرية لا عبادةَ لها عندنا ، لكن عندنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُشرِّع لنا وواجب علينا اتباعه ، وهكذا كان ردّ عمر على مَنْ أثاروا هذه الفتنة . ولما تكلم عمر في غلاء المهور وكان مُلْهماً يوافق قولُه قولَ القرآن الكريم ، وقفتْ له امرأة وراجعته وقالت له : اخطأتَ يا عمر ، كيف تنهى عن الغلاء في المهور ، والله تعالى يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً … } [ النساء : 20 ] . فأجاز أن يكون المهر قنطاراً من ذهب ، عندها قال عمر بجلالة قدره : " أصابت امرأة وأخطأ عمر " ليبين أنه لا كبيرَ أمام شرع الله . إذن : هذه مسائل مرسومة ولها أصل ، يجب أن تُعلم لنردّ بها حين نسأل في أمور ديننا . نعود إلى مسألة سؤال أهل المعصية ، حيث نفاه القرآن مرة وأثبته أخرى . ونقول : جاء القرآن بأسلوب العرب وطريقتهم ، والسؤال في الأسلوب العربي إما سؤال مِمَّنْ يجهل ويريد المعرفة ، كما يسـأل التلميذ مُعلِّمه ، أو يسأل العالم الجاهل لا ليعلم منه ، ولكن ليقرره بما يريد . فإذا نفى الله تعالى السؤال ، فلا تظنوا أنه يسألكم ليعرف منكم ، إنما يسألكم لتقروا لذلك قال سبحانه : { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] . إذن : إثبات السؤال له معنى ، ونَفْيه له معنى ، فإذا نفى فقد نفى سؤال العلم من جهتهم ، وإذا أثبت فقد أثبت سؤال الإقرار من جهتهم لتكون الحجة ألزم لأن الإقرار سيد الأدلة . وقد أوضحنا هذه المسألة بمثال : التلميذ المهمل الذي يتظاهر أمام أبيه بالمذاكرة ، فيفتح كتابه ويهزّ رأسه كأنه يقرأ ، فإذا ما سأله والده لم يجده حصَّل شيئاً ، فيقول له : ذاكرت وما ذاكرت . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] هكذا نَفْي وإثبات في آية واحدة لفاعل واحد ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ فعلاً حَفْنة من الحصى ورَمَى بها نحو الأعداء ، لكن هل في قدرته أن يُوصّل هذه الحفنة إلى أعين الأعداء جميعاً ؟ فالعمل والرمي للرسول ، والنتيجة والغاية لله عز وجل . ثم يقول الحق سبحانة : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ … } .