Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 21-21)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كأن الشيطان له خطوات متعددة ليست خطوة واحدة ، وقد أثبت الله عداوته لبني آدم ، وهي عداوة مُسبَّبة ليست كلاماً نظرياً ، إنما هو عدو بواقعة ثابتة ، حيث امتنع عن السجود لآدم ، وعصى أمر الله له ، بل وأبدى ما في نفسه وقال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] . وقال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } [ الإسراء : 61 ] وهكذا علّلَ امتناعه بأنه خير ، وكأن عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه ومكانته عند ربه . والحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا بعداوة الشيطان من خلال امتناعه عن السجود ، إنما يحذرنا منه ، ويُنبِّهنا إلى خطره ويُربِّي فينا المناعة من الشيطان لأن عداوته لنا عداوة مركزة ، ليست عداوة يمارسها هكذا كيفما اتفق ، إنما هي عداوة لها منهج ولها خطة . فأول هذه الخطة أنه عرف كيف يقسم ، فدخل على الإنسان من باب عزة الله عن خَلْقه ، فقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] . فلو أرادنا ربنا - عز وجل - مؤمنين ما كان للشيطان علينا سبيل ، إنما تركنا سبحانه للاختيار ، فدخل علينا الشيطان من هذا الباب لذلك قال بعدها : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 40 ] فمَنِ اتصف بهذه الصفة فليس للشيطان إليه سبيل . إذن : مسألة العداوة هذه ليست بين الحق سبحانه وبين الشيطان ، إنما بين الشيطان وبني آدم . فقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ النور : 21 ] نداء : يا من آمنتم بإله كأنه يقول : تَنبَّهوا إلى شرف إيمانكم به ، وابتعدوا عما يُضعِف هذا الإيمان ، أو يفُتُّ في عَضُدِ المؤمنين بأيِّ وسيلة ، وتأكّدوا أن الشيطان له خطوات متعددة . { لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ … } [ النور : 21 ] فإنْ وسوس لك من جهة ، فتأبَّيْتَ عليه ووجد عندك صلابةً في هذه الناحية وجَّهك إلى ناحية أخرى ، وزيّن لك من باب آخر ، وهكذا يظل بك عدوك إلى أنْ يُوقِعك ، فهو يعلم أن لكل إنسان نقطة ضَعْف في تكوينه ، فيظل يحاوره إلى أنْ يصل إلى هذه النقطة . والشيطان : هو المتمرد العاصي من الجن ، فالجن مقابل الإنس ، فمنهم الطائع والعاصي ، والعاصي منهم هو الشيطان ، وعلى قِمتهم إبليس لذلك يقول تعالى في سورة الكهف : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ … } [ الكهف : 50 ] . وسبق أن ذكرنا أنك تستطيع أن تُفرِّق بين المعصية من قِبل النفس والمعصية من قِبل الشيطان ، فالنفس تُلِح عليك في معصية بعينها لا تتعدّاها إلى غيرها ، أما الشيطان فإنه يريدك عاصياً على أيِّ وجه من الوجوه ، فإن امتنعت عليه في معصية جَرَّك إلى معصية أخرى أياً كانت . ثم يقول سبحانه : { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ … } [ النور : 21 ] ولك أنْ تسأل : أين جواب مَنْ الشرطية هنا ؟ قالوا : حُذِف الجواب لأنه يُفهم من السياق ، ودَلَّ عليه بذكر عِلَّته والمسبّب لَه ، وتستطيع أن تُقدِّر الجواب : مَنْ يتبع خطوات الشيطان يُذِقْه ربه عذاب السعير لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر ، فَمَنْ يتبع خطواته ، فليس له إلا العذاب ، فقام المسبّب مقام جواب الشرط . والكلام ليس كلام بشر ، إنما هو كلام رَبِّ العالمين . وأسلوب القرآن أسلوب رَاقٍ يحتاج إلى فكر وَاعٍ يلتقط المعاني ، وليس مجرد كلام وحَشْو . أَلاَ ترى بلاغة الإيجاز في قوله تعالى من سورة النمل : { ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } [ النمل : 28 ] . ثم يقول تعالى بعدها : { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } [ النمل : 29 ] . وتأمل ما بين هذيْن الحدثيْن من أحداث حُذِفت للعلم بها ، فوعي القارىء ونباهته لا تحتاج أن نقول له فذهب الهدهد … وو إلخ فهذه أحداث يُرتِّبها العقل تلقائياً . وقد أوضح الشيطانُ نفسه هذه الخطوات وأعلنها ، وبيَّن طرقه في الإغواء ، ألم يقل : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] فلا حاجةَ للشيطان بأصحاب الصراط المعوج لأنهم أتباعه ، فالشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلاً ، إنما يذهب إلى المسجد ليُفسِد على المصلين صلاتهم ، لذلك البعض ينزعج من الوساوس التي تنتابه في صلاته ، وهي في الحقيقة ظاهرة صحية في الإيمان ، ولولا أنك في طاعة وعبادة ما وسوس لك . لكن مصيبتنا أن الشيطان يعطينا فقط طرف الخيط ، فنسير نحن خَلْفه نكُرّ في الخيط كَرّاً ولو أننا ساعة ما وسوس لنا الشيطان استعذْنا بالله من الشيطان الرجيم ، كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ … } [ الأعراف : 200 ] . إذن : إياك أنْ تقبل منه طرف الخيط لأنك لو قَبِلْته فلن تقدر عليه بعد ذلك . ومن خطوات الشيطان أيضاً قوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ … } [ الأعراف : 17 ] . إذن : للشيطان في إغواء الإنسان منهج وخُطّة مرسومة ، فهو يأتي الإنسان من جهاته الأربع : من أمامه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله . لكن لم يذكر شيئاً عن أعلى وأسفل لأن الأولى تشير إلى عُلُوِّ الربوبية ، والأخرى إلى ذُلِّ العبودية ، حين ترفع يديك إلى أعلى بالدعاء ، وحين تضع جبتهك على الأرض في سجودك لذلك لا يأتيك عدوك من هاتين الناحيتين . ثم يقول تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ … } [ النور : 21 ] . قلنا : إن فضل الجزاء يتناوبه أمران : جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقه ، وجزاء بالفضل حينما يعطيك ربك فوق ما تستحق لذلك ينبغي أن نقول في الدعاء : اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل وبالإحسان لا بالميزان ، وبالجبر لا بالحساب . فإنْ عاملنا ربنا - عز وجل - بالعدل لَضِعْنا جميعاً . لكن ، في أيِّ شيء ظهر هذا الفضل ؟ ظهر فضل الله على هذه الأمة في أنه تعالى لم يُعذِّبها بالاستئصال ، كما أخذ الأمم السابقة ، وظهر فَضْل الله على هذه الأمة في أنه تعالى أعطاها المناعة قبل أن تتعرَّض للحَدث ، وحذرنا قديماً من الشيطان قبل أن نقع في المعصية ، وقبل أن تفاجئنا الأحداث ، فقال سبحانه : { فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ … } [ طه : 117 ] وإلا لغرق الإنسان في دوامة المعاصي . لأن التنبيه للخطر قبل وقوعه يُربِّي المناعة في النفس ، فلم يتركنا ربنا - عز وجل - في غفلة إلى أنْ نقعَ في المعصية ، كما نُحصِّن نحن أنفسنا ضد الأمراض لنأخذ المناعة اللازمة لمقاومتها . وقوله تعالى : { مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً … } [ النور : 21 ] زكَى تطهَّر وتنقّى وصُفِّيِ { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 21 ] وقال : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ النور : 21 ] لأنه تعالى سبق أنْ قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ النور : 19 ] ذلك في ختام حادثة الإفك التي هزَّتْ المجتمع الإسلامي في قمته ، فمسَّتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصِّدِّيق وزوجته أم المؤمنين عائشة وجماعة من الصحابة . لذلك قال تعالى وَٱللَّهُ سَمِيعٌ لما قيل عَلِيمٌ [ النور : 21 ] بما تُكِّنُه القلوب من حُبٍّ لإشاعة الفاحشة . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ … } .