Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 22-22)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تورط في حادثة الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طُبِع على الخير ، لكنه فُتِن بما قيل وانساقَ خلف مَنْ روَّجوا لهذه الإشاعة ، وكان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق ، وكان أبو بكر ينفق عليه ويرعاه لفقره ، فلما قال في عائشة ما قال وخاض في حقها أقسم أبو بكر ألاّ ينفق عليه ، وقد كان يعيش وأهله في سَعَة أبي بكر وفضله لأن هذه الفتنة جعلتْ بعض أهل الخير يضِنُّ به . وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يُقدِّر صنائع المعروف ، وهذا الفعل يُزهِّد الناس في الخير ، ويصرفهم عن عمل المعروف ، والله تعالى يريد أنْ يُصحِّح لنا هذه المسألة ، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعةَ الإيمان لأن الذي يعصي الله فيك لا تكافئه إلا بأنْ تطيع الله فيه . وحين تترك مَنْ أساء إليك لعقاب الله وتعفُو عنه أنت ، فإنما تركتَه للعقاب الأقوى لأنك إنْ عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك ، وإنْ تركتَ عقابه لله عاقبه بقدْر طاقته تعالى وقدرته . إذن : العافي أقسى قَلْباً من المنتقم ، وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأخ حين يعتدي على أخيه الأصغر ، فيأتي الأب فيجد صغيره مهاناً مظلوماً ، فيأخذه في حضنه ، ويحاول إرضاءه وتعويضه عَمَّا لَحِقه من ظلم أخيه ، كذلك الحال في هذه المسألة ولله المثل الأعلى . ومن هنا يجب عليك أن تُسَرَّ بمَنْ جعل الله في جانبك ، وتُحسن إليه ، لا أن تردّ له الإساءة بمثلها . إذن : نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر أَلاَّ ينفق عليه وعلى أهله ، وأنْ يمنع عنه عطاءه وبِرّه ، نزلت لتصحح للصِّديق هذه النظرة وتُوجِّه انتباهه إلى جانب الخير الباقي عند الله لا عند الناس . فقال تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ … } [ النور : 22 ] . { يَأْتَلِ … } [ النور : 22 ] ائتلى مثل اعتلى تماماً ، ومنها تألّى يعني : حلف وأقسم ، يوجه الحق - تبارك وتعالى - الصِّديق أبا بكر ، ويذكر لفظ { أُوْلُواْ … } [ النور : 22 ] الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل ومنزلة في الإسلام ، ففي كل ناحية له فضل لذلك أعطاه وصفيْن مثل ما أعطى للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال للصِّديق : { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ … } [ النور : 22 ] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ … } [ المائدة : 13 ] . كذلك ، أَلاَ ترى الصِّدِّيق ثانَي اثنينِ في الغار ، وثاني اثنين في أمور كثيرة ، فهو ثاني اثنين في الهجرة ، وثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى لذلك صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عن الصِّديق : " " كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان " . يعني : في التسابق في الخير " فسبقته إلى النبوة فاتبعني ، ولو سبقني إليها لاتبعته " " . ولما كان لأبي بكر أفضال كثيرة في زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد ، إنما بصيغة الجمع تكريماً وتعظيماً . أَلاَ ترى الصِّديق مع ما عُرِف عنه من الحلم ورقة القلب لما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وحدثتْ مسألة الردّة يقف ويقول : " والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونها لرسول الله لجالدتهم بالسيف ، لو لم أجد إلا الذر " . هذا موقف الصِّديق رقيق القلب ، ليِّن الجانب ، صاحب الرحمة والحنان ، الذي تقول عنه ابنته " إنه رجل بكّاء " يعني : كثير البكاء . في حين يعارضه في أمر الحرب عمر مع ما عُرِف عنه من الشدة والقسوة على الكفار . لكن هذا التناقض في موقف كل منهما يقوم دليلاً على أن الإسلام ليس طَبْعاً غالباً على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه ، فموقف الردة هو الذي جعل من الصِّدِّيق أسداً شجاعاً قاسيَ القلب ، ولو أن عمر في مكانه من المسئولية وفعل كما فعل الصِّدِّيق لقالوا : شِدّة أَلِفها الناس من عمر . فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبْع خاص يظل عليه ، إنما الموقف هو الذي يطبعك إيمانياً ، وهذا ما ذكرناه في قوله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . فالمسلم ليس مفطوراً لا على الشدة وحدها ، ولا على الرحمة وحدها ، إنما عليه أنْ يتصرَّف في كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله . فقوله تعالى : { أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ … } [ النور : 22 ] يقول للصِّديق : أنت رجل فاضل صِدِّيق ، وعندك سعة فلا تعطي ولا تُؤثر على نفسك من ضيق ، ولا يليق بالفاضل أن يقطع صلته ورحمه لمثل هذا الخطأ الذي وقع فيه مِسْطح ، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله ، وعُوقِبَ بحدِّ القذف ثمانين جَلْدة ، وليس لك أن تعاقبه بعد ذلك . ومن سماحة الإسلام أن مَنْ وقع في حَدٍّ وعُوقِب به لا يجوز لأحد أنْ يُعيِّره بذنبه لأنه تاب وأناب وطهّره الله منه بالحدِّ ، وانتهت المسألة ، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه . فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول : ارجع إلى فضلك يا أبا بكر ، وعُدْ أنت إلى سعتك ، وكُنْ موصولَ المروءة ، ولا تقطع رحمك ، يريد - سبحانه وتعالى - أنْ يُصفِّي ما في النفوس من آثار هذه الفتنة التي زلزلتْ المجتمع المؤمن في المدينة . ولا يليق بذي الفضل والسَّعَة أنْ يعامل الناس بالعدل ، فصحيح أن مِسْطح كان يستحق هذه القطيعة وهذا الحرمان ، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصِّدِّيق صاحب الفضل والسَّعَة . ولو أجريتَ إحصاءً للمؤمنين بإله وللكافرين في الكون ، ستعلم أن المؤمنين قِلَّة والكافرين كثرة ، فهل قال الله تعالى لجنود خيره في الكون : أعطوا مَنْ آمن ، واتركوا مَنْ كفر ؟ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مَثَلاً في ذاته عز وجل ، فكما أنه يعطي مَنْ كفر به ويرزقه ، بل ربما كان أحسن حالاً مِمَّنْ آمن ، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عَمَّنْ أساء إليك . لذلك يقول سبحانه في آية أخرى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 224 ] . فإنْ كنت بارّاً بأحد وبدر منه شيء فلا تحلف بالله أنك لا تبرُّه ، فقد تهدأ ثورتك عليه ، وتريد أنْ تبرَّه ، وتتحجج بحلفك ، إذن : لا تجعلوا الله عُرْضة لحلف يمنعكم من المعروف . ثم يقول سبحانه : { أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ النور : 22 ] صحيح أن مِسْطح من ذوي قُرْبى أبي بكر ومن المساكين ، لكن يعطيه الله نيشاناً آخر ، فلم يخرجه مَا قال من وصف المهاجر ، ولم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم . فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تُحبط الحسنة ، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها ، كما قال عز وجل : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ … } [ هود : 114 ] . فرغم ما وقع فيه مِسْطح ، فقد أبقاه الله في العَتْب على أبي بكر ، وتحنين قلبه ، وأبقاه في المهاجرين . { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ … } [ النور : 22 ] العفو : ترك العقوبة على الذنب ، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تُؤنبه ، وتمنّ عليه بعفوْك ، وتُذكِّره دائماً أنه لا يستحق منك هذا العفو لذلك يحثنا ربنا - تبارك وتعالى - على الصفح بعد العفو ، والصفح : تَرْك المنِّ وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهونَ من عفوك عنه . ذلك لأن الحق سبحانه حينما يُشرِّع للبشر ما يُنظِّم العلاقات بينهم يراعي جميع مَلكات النفس ، لا يقتصر على الملَكات العالية فحسب ، إنما لكل الملَكات التي تنتظم الخَلْق جميعاً ، وليأخذ كل مِنَّا على قَدْر إيمانه وامتثاله لأمر ربه . وفي ذلك يقول سبحانه : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] . لو تأملنا حقيقة المثْلية في رَدِّ الإساءة لوجدناها صعبة في تقديرها ، فإنْ ضربَك شخصٌ ضربة ، أعندك القدرة التي تردُّ بها هذه الضربة بمثلها تماماً بنفس الطريقة ، وبنفس القوة ، وبنفس الألم ، بحيث لا تكون أنت مُعْتدياً ؟ إنك لو تأملتَ هذه المثلية لفضَّلْتَ العفو بدل الدخول في متاهات أخرى . وسبق أن ذكرنا قصة المرابي الذي اشترط على المدين إنْ تأخر في السداد أن يقطع رطلاً من لحمه ، ولما تأخر الرجل في السداد خاصمه عند القاضي ، وأخبره بما كان بينهما من شرط ، وكان القاضي ذكياً فقال للمرابي : خُذ السكين واقطع رطلاً من لحمه ، لكن إنْ زاد أخذناه منك ، وإنْ نقص أخذناه منك ، فتراجع المرابي لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة . فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وَسِعَنا العفو ، وانتهت المسألة على خير ما يكون . وفي مرتبة أخرى يقول سبحانه : { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] . فالحق - تبارك وتعالى - يجعل لنا مراتب في رَدِّ السيئة ، فالعقاب بالمثل مرتبة ، وكَظْم الغيظ مرتبه ، والعفو مرتبة ، والصفح مرتبة ، وأعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى مَنْ أساء إليك { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] . ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أُسْوة لعباده فيقول : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ … } [ النور : 22 ] فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك ، فلماذا لا تغفر أنت لمَنْ أساء إليك ؟ وكأن ربنا - عز وجل - يريد أن يُصلح ما بيننا لذلك لما نزلتْ هذه الآية في شأن أبي بكر قال : أحب يا رب ، أحب يا رب ، أحب يا رب . ومعنى { أَلاَ … } [ النور : 22 ] أداة للحضِّ وللحثِّ على هذا الخُلُق الطيب { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 22 ] فمن تخلَّق بأخلاق الله تعالى فليكُنْ له غفران ، وليكن لديه رحمة ، ومَنْ مِنّا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله ، فيتصف بأنه غفور ورحيم ؟ ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْغَافِلاَتِ ٱلْمُؤْمِناتِ … } .