Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 24-24)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نعلم جميعاً أن اللسان هو الذي يتكلم ، فماذا أضافت الآية : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ … } [ النور : 24 ] . قالوا : في الدنيا يتكلم اللسان وينطق ، لكن المتكلم في الحقيقة أنت لأنه مَا تحرَّك إلا بمرادك له ، فاللسان آلة خاضعة لإرادتك ، إذن : فهو مجرد آلة ، أمَّا في الآخرة فسوف ينطق اللسان على غير مراد صاحبه لأن صاحبه ليس له مراد الآن . ولتقريب هذه المسألة : أَلاَ ترى كيف يخرس الرجل اللبيب المتكلم ، ويُمسك لسانه بعد طلاقته ، بسبب مرض أو نحوه ، فلا يستطيع بعدها الكلام ، وهو ما يزال في سَعَة الدنيا . فما الذي حدث ؟ مجرد أن تعطلتْ عنده آلة الكلام ، فهكذا الأمر في الآخرة تتعطل إرادتك وسيطرتك على جوارحك كلها ، فتنطق وتتحرك ، لا بإرادتك ، إنما بإرادة الله وقدرته . فالمعنى { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ … } [ النور : 24 ] أي : شهادة ونطقاً على مراد الله ، لا على مراد أصحابها . ولمَ نستبعد نُطْق اللسان على هذه الصورة ، وقد قال تعالى : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] وقد جعل فيك أنت أيها الإنسان نموذجاً يؤكد صِدْق هذه القضية . فَقُلْ لي : ماذا تفعل إنْ أردتَ أن تقوم الآن من مكان ؟ مجرد إرادة القيام ترى نفسك قد قُمْتَ دون أن تفكر في شيء ، ودون أن تستجمع قواك وفكرك وعضلاتك ، إنما تقوم تلقائياً دون أن تدري حتى كيفية هذا القيام ، وأيّ عضلات تحركت لآدائه . ولك أنْ تقارن هذه الحركة التلقائية السَّلسِة بحركة الحفار أو الأوناش الكبيرة ، وكيف أن السائق أمامه عدد كبير من العِصيِّ والأذرع ، لكل حركة في الآلة ذراع معينة . فإذا كان لك هذه السيطرة وهذا التحكم في نفسك وفي أعضائك ، فكيف تستبعد أن يكون لربك - عز وجل - هذه السيطرة على خَلْقه في الآخرة ؟ إذن : فاللسان محلّ القول ، وهو طَوْع إرادتك في الدنيا ، أما في الآخرة فقد شُلَّتْ هذه الإرادة ودخلتْ في قوله تعالى : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . ثم يقول سبحانه : { وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] وهذه جوارح لم يكُنْ لها نُطْق في الدنيا ، لكنها ستنطق اليوم . ويحاول العلماء تقريب هذه المسألة فيقولون : إن الجارحة حين تعمل أيَّ عمل يلتقط لها صورة تسجل ما عملتْ ، فنُطْقها يوم القيامة أن تظهر هذه الصورة التي التقطت . والأقرب من هذا كله أن نقول : إنها تنطق حقيقة ، كما قال تعالى حكايةً عن الجوارح : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ فصلت : 21 ] . ومعنى : { ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أن لكل شيء في الكون نُطْقاً يناسبه ، كما نطقت النملة وقالت : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ … } [ النمل : 18 ] ونطق الهدهد ، فقال : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [ النمل : 22 ] . وقد قال تعالى عن نُطْق هذه الأشياء : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . لكن ، إنْ أراد الله لك أن تفقه نُطْقهم فقَّهك كما فقَّه سليمان عليه السلام ، حين فهم عن النملة : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا … } [ النمل : 19 ] كما فَهِم عن الهدهد ، وخاطبه في قضية العقيدة . وإنْ كان النطق عادةً يفهم عن طريق الصوت ، فلكل خَلْق نُطْقه الذي يفهمه جنسه لذلك نسمع الآن مع تقدُّم العلوم عن لُغة للأسماك ، ولغة للنحل … إلخ . وسبق أنْ قلنا : إن الذين قالوا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن الحصى سبّح في يده ، نقول : عليكم أن تُعدِّلوا هذه العبارة ، قولوا : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يده ، وإلاَّ فالحصى مُسبِّح في يده صلى الله عليه وسلم ، كما هو مُسبِّح في يد أبي جهل . ولو سألتَ هذه الجوارح : لم شهدتِ عليَّ وأنت التي فعلت ؟ لقالت لك : فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك ، إنما يوم ننحلّ عن إرادتك ونخرج عن قهرك ، فلن نقول إلا الحق . ثم يقول الحق سبحانه : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ … } .