Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 41-41)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يريد الحق - سبحانه وتعالى - أن يلفتنا إلى ما يدّل على وحدة الخالق الأعلى ، وكمال قيوميته ، وكمال قدرته ، وذُكِرَتْ هذه الآية بعد عدة أوامر ونواهٍ ، وكأن ربك - عز وجل - يريد أنْ يُطمئِنك على أن هذا الكون الذي خلقه من أجلك وقبل أن تُولد ، بل ، وقبل أن يخلق الله آدم أعدَّ له هذا الكون ، وجعله في استقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه ، يقول لك ربك : اطمئن فلن يخرج شيء من هذا الكون عن خدمتك فهو مُسخَّر لك ، ولن يأتي يوم يتمرّد فيه ، أو يعصي أوامر الله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النور : 41 ] . { أَلَمْ تَرَ … } [ النور : 41 ] يعني : ألم تعلم ، كما في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِد عام الفيل ، ولم يَرَ هذه الحادثة ، فلماذا لم يخاطبه ربُّه بألم تعلم ويريح الناس الذين يتشكّكون في الألفاظ ؟ قالوا : ليدلّك على أن ما يخبرك الله به - غيباً عنك - أوثقُ مما تخبرك به عينُك مشهداً لك لأن مصدر علمك هو الله ، أَلاَ ترى أن النظر قد يصيبه مرض فتختل رؤيته ، كمن عنده عمى ألوان أو قِصَر نظر … إلخ إذن : فالنظر نفسه وهو أوثق شيء لديك قد يكذب عليك . والتسبيح : هو التنزيه ، والتنزيه أن ترتفع بالمنزّه عن مستوى ما يمكن أنْ يجولَ بخاطرك : فالله تعالى له وجود ، وأنت لك وجود ، لكن وجودَ الله ليس كوجودك ، الله له ذات وصفات ، لكن ليست كذاتك وصفاتك … إلخ . إذن : نزِّه ذات الله تعالى عن الذوات التي تعرفها لأنها ذوات وُهِبَتْ الوجود ، أما ذات الله فغير موهوبة ، ذات الله ذاتية ، كذلك لك فِعْل ، ولله تعالى فِعْل . وقد ذكرنا في قوله تعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا … } [ الإسراء : 1 ] . إن الذين اعترضوا على هذا الفعل اعترضوا بغباء ، فلم يُفرِّقوا بين فِعْل الله وفِعْل العبد ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل : سريْتُ من مكة إلى بيت المقدس . إنما قال : أُسْرِي بي . فالاعتراض على هذا فيه مغالطة ، فإنْ كنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً فذلك لأن سَيْركم خاضع لقدرتكم وإمكاناتكم ، أمّا الله تعالى فيقول للشيء : كُنْ فيكون ، فلا يحتاج في فِعْله سبحانه إلى زمن . فمن الأدب أَلاَّ تقارن فِعْل الله بفعلك ، ومن الأدب أنْ تُنزِّه الله عن كل مَا يخطر لك ببال ، نزِّه الله ذاتاً ، ونزِّهه صفاتاً ، ونزهه أفعالاً . ألا ترى أن سبحان مصدر للتسبيح ، يدل على أن تنزيه الله ثابت له سبحانه قبل أن يخلق مَنْ ينزهه ، كما جاء في قوله تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ … } [ آل عمران : 18 ] فشهد الحق - تبارك وتعالى - لنفسه قبل أنْ تشهدوا ، وقبل أن تشهد الملائكة ، فهذه هي شهادة الذات للذات . وقبل أن يخلق الله الإنسان المسبِّح سبَّح لله السماوات والأرض ساعة خلقهما سبحانه وتعالى . وحين تتتبع ألفاظ التسبيح في القرآن الكريم تجدها جاءت مرة بصيغة الماضي { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الحديد : 1 ] فهل سبّحَتْ السماوات والأرض مرة واحدة ، فقالت : سبحان الله ثم سكتَتْ عن التسبيح ؟ لا إنما سبَّحَتْ في الماضي ، ولا تزال تُسبِّح في الحاضر : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } [ الجمعة : 1 ] . وما دام أن الكون كله سبَّح لله ، وما يزال يُسبِّح فلم يَبْقَ إلا أنت يا ابن آدم : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [ الأعلى : 1 ] يعني : استح أن يكون الكون كله مُسبِّحاً وأنت غير مُسبِّح ، فصِلْ أنت تسبيحك بتسبيح كل هذه المخلوقات . وعجيب أن نسمع من يقول أن مَنْ في الآية للعاقل ، فهو الذي يُسبِّح أمّا السماوات والأرض فلا دخلَ لهما في هذه المسألة ، ونقول : لا دخلَ لها في تصورك أنت ، أمّا الحقيقة فإنها مثلك تُسبِّح كما قال تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] . وقال : { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ … } [ الرعد : 13 ] فليس لك بعد كلام الله كلام . وآخر يقول لك : التسبيح هنا ليس على الحقيقة ، إنما هو تسبيح دلالة وحال ، لا مقال ، يعني : هذه المخلوقات تدلُّ بحالها على تسبيح الله وتنزيهه ، وأنه واحد لا شريك له ، على حد قول الشاعر : @ وَفِي كُلِّ شَيء لَهُ آيَةٌ تدُلُّ على أنَّه الوَاحِدُ @@ وهذا القول مردود بقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } [ الإسراء : 44 ] . إذن : فهذه المخلوقات تُسبِّح على الحقيقة ولها لسان ولغة ، لكنك لا تفهم عنها ولا تفقه لغاتها ، وهل فهمتَ أنت كل لغات بني جنسك حتى تفهم لغات المخلوقات الأخرى ؟ إن العربي إذا لم يتعلم الإنجليزية مثلاً لا يستطيع أن يفهم منها شيئاً ، وهي لغة منطوقة مكتوبة ، ولها ألفاظ وكلمات وتراكيب مثل العربية . إذن : لا تقُلْ تسبيحَ حال ، هو تسبيح مقال ، لكنك لا تفهمه ، وكل شيء له مقال ويعرف مقاله ، بدليل أن الله تعالى إنْ شاء أطلع بعض أهل الاصطفاء على هذه اللغات ، ففهمها كما فهم سليمان عليه السلام عن النملة { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا … } [ النمل : 19 ] وسمع كلام الهدهد وفهم عنه ما يقول عن ملكة سبأ . ونقول لأصحاب هذا الرأي : تأملوا الخلية المسدَّسة التي يصنعها النحل وما فيها من هندسة تتحدى أساطين الهندسة والمقاييس أن يصنعوا مثلها ، تأمَّلوا عش الطائر وكيف ينسج عيدان القش ، ويُدخل بعضها في بعض ، ويجعل للعُشِّ حافَّة تحمي الصغار ، فإذا وضعْتَ يدك في العُشِّ وهو من القَشِّ وجدتَ له ملمسَ الحرير ، تأملوا خيوط العنكبوت وكيف يصطاد بها فرائسه ؟ لقد شاهدت فِيلماً مصوراً يُسجِّل صراعاً بين دب وثور ، الدب رأى قرون الثور طويلة حادة ، وعلم أنها وسيلة الثور التي ستقضي عليه ، فما كان منه إلا أن هجم على الثور وأمسك قَرْنَيْه بيديه ، وظل ينهش رأس الثور بأسنانه حتى أثخنه جراحاً حتى سقط فراح يأكله . إذن : كيف نستبعد أن يكون لهذه المخلوقات لغات تُسبِّح الله بها لا يعرفها إلا بنو جنسها ، أو مَنْ أفاض الله عليه بعلمها ؟ ثم ألم يتعلَّم الإنسان من الغراب كيف يدفن الموتى لما قَتَل قابيلُ هابيلَ ؟ كما يقول سبحانه : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ … } [ المائدة : 31 ] وكأن ربنا - عز وجل - يُعلِّمنا الأدب وعدم الغرور . وقرأنا أن بعض الباحثين والدارسين لحياة النمل وجدوا أنه يُكوِّن مملكة متكاملة بلغت القمة في النظام والتعاون ، فقد لاحظوا مجموعة تمرُّ هنا وهناك ، حتى وجدتْ قطعة من طعام فتركوها وانصرفوا ، حيث أتوا ، ثم جاءت بعدهم كوكبة من النمل التفتْ حول هذه القطعة وحملتْها إلى العُشِّ ، ثم قام الباحث بوضع قطعة أخرى ضِعْف الأولى ، فإذا بمجموعة الاستكشاف أو الناضورجية تمر عليها وتذهب دون أنْ تحاول حَمْلها ، وبعدها جاء جماعة من النمل ضِعْف الجماعة الأولى ، فكأن النمل يعرف الحجم والوزن والكتلة ويُجيد تقديرها . وفي إحدى المرات لاحظ الباحث فتاتاً أبيض أمام عُشِّ النمل ، فلما فحصه وجده من جنين الحبة الذي يُكوِّن النبتة ، وقد اهتدى النمل إلى فصل هذا الجنين حتى لا تُنبت الحبة فتهدم عليهم العُشّ ، لهذا الحد عَلِم النمل قانون صيانته ، وعلم كيف يحمي نفسه ، وهو من أصغر المخلوقات ، أبعد هذا كله نستبعد أن يكون للنمل أو لغيره لُغته الخاصة ؟ ثم يقول سبحانه : { وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] فلماذا خَصَّ الطير بالذكْر مع أنها داخلة في { مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النور : 41 ] . قالوا : خَصَّها لأن لها خصوصية أخرى وعجيبة ، يجب أن نلتفت إليها لأن الله تعالى يريد أنْ يجعل الطير مثلاً ونموذجاً لشيء أعظم ، فالطير كائن له وزن وثِقل ، يخضع لقانون الجاذبية التي تجذب للأرض كُلَّ ثقل يعلَقُ في الهواء . لكن الحق - سبحانه وتعالى - يخرق هذا القانون للطير حين يصُفُّ أجنحته في الهواء ، يظل مُعلّقاً لا يسقط : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ … } [ الملك : 19 ] . وكأن الخالق - عز وجل يقول : خُذُوا من الطير المشاهد نموذجاً ووسيلة إيضاح ، فإذا قلتُ لكم : { وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ … } [ الحج : 65 ] فَصدِّقوا وآمنوا أن الله يُمسك السماء ، بل : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ … } [ فاطر : 41 ] . فخُذْ من المشهد الذي تدركه دليلاً على ما لا تدركه . لكن ، مَن الفاعل في { عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ … } [ النور : 41 ] . يمكن أن يكون الفاعل الطير وكل ما في الوجود ، وأحسن منه أن نقول : علم الله صلاتها وتسبيحها لأنه سبحانه خالقها وهاديها إلى هذا التسبيح . إذن : فكل ما في الوجود يعلم صلاته ويعلم تسبيحه ، كما تعلم أنت المنهج ، لكنه استقام على منهجه لأنه مُسخّر وانحرفت أنت لأنك مُخيَّر . فإنْ أردتَ أنْ تستقيمَ أمور حياتك فطبِّق منهج الله كما جاءك لذلك لا تجد في الكون خللاً أبداً إلا في منطقة الاختيار عند الإنسان ، كل شيء لا دخْلَ للإنسان فيه يسير منتظماً ، فالشمس لم تعترض في يوم من الأيام ولم تتخلف ، كذلك القمر والنجوم والهواء ، إنها منضبطة غاية الانضباط ، حتى إن الناس يضبطون عليها حساباتهم ومواعيدهم واتجاهاتهم . لذلك يقول تعالى : { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] يعني : بحساب دقيق ، وما كان للشمس أنْ تضبط الوقت إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة . { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [ النور : 41 ] أي : لقيوميته تعالى على خَلْقه . ثم يقول الحق سبحانه : { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } .