Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 47-47)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي آية أخرى يقول سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [ النساء : 61 ] . وهؤلاء هم المنافقون ، وخَيْبة المنافق أنه متضارب الملكات النفسية ذلك لأن للإنسان مَلَكات متعددة تتساند حال الاستقامة ، وتتعاند حال المعصية ، فالإنسان تراه طبيعياً حين ينظر إلى ابنته أو زوجته ، لأن مَلَكاته منسجمة مع هذا الفعل ، أما حين ينظر إلى محارم الغير فتراه يختلس النظرة ، يخاف أنْ يراه أحد يتلصّص ويحتاط لأن مَلَكاته مضطربة غير منسجمة مع هذا الفعل . لذلك يقولون : الاستقامة استسامة ، فملكات النفس بطبيعتها متساندة لا تتعارض أبداً ، لكن المنافق فضلاً عن كذبه ، فهو متضارب الملَكات في نفسه لأن القلب كافر واللسان مؤمن . لذلك فكرامة الإنسان تكون بينه وبين نفسه قبل أن تكون بينه وبين الناس ، فقد يصنع الإنسان أمام الناس صنائع خير تُعجب الآخرين ، لكنه يعلم من نفسه الشر ، فهو وإن كسب ثقة المجتمع من حوله ، إلا أنه خسر رَأْى نفسه في نفسه ، وإذا خسر الإنسان نفسه فلن يُعوِّضه عنها شيء حتى إنْ كسب العالم كله لأن المجتمع لا يكون معك طول الوقت ، أمّا نفسك فملازمة لك كل الوقت لا تنفك عنها ، فأنا كبير أمام الناس ما دُمْت معهم ، أمّا حين أختلي بنفسي أجدها حقيرة : فعلتْ كذا ، وفعلت كذا . إذن : أنت حكمتَ أنّ رأى الناس أنفَسُ من رأيك ، ولو كان لرأيك عندك قيمة لحاولت أن يكون رأيك في نفسك صحيحاً ، لكن أنت تريد أن يكون رأي الناس فيك صحيحاً ، وإنْ كان رأيك عند نفسك غير ذلك . ويقول تعالى في هؤلاء : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 60 ] . فقد حكم عليهم أنهم يزعمون ، والزعم مطيّة الكذب ، والدليل على أنهم يزعمون أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، ولو كانوا مؤمنين بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قبلك ما تحاكموا إلى الطاغوت ، وهكذا فضحوا هم أنفسهم ، فالثانية فضحتْ الأولى . لذلك قالوا : إن الكافر أحسن منهم لأنه منسجم الملَكات : قلبه موافق للسانه ، قلبه كافر ولسانه كذلك ، ومن هنا كان المنافقون في الدَّرْك الأسفل من النار . والحق - تبارك وتعالى - يعطينا صورة ونموذجاً يحذرنا ألاَّ نحكم على القول وحده ، فيقول تعالى عن المنافقين : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] . وهذه المقولة { إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ … } [ المنافقون : 1 ] مقولة صادقة ، لكن القرآن يُكذِّبهم في أنهم شَهدوا بها . وقد نزلتْ هذه الآية في أحد المنافقين أظن أنه بشر ، وكانت له خصومة مع يهودي ، فطلب اليهودي أن يتحاكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطلب المنافق أنْ يتحاكما عند كعب بن الأشرف ، لكن رَدَّ اليهودي حكومة كعب لما يعلمه من تزييفه وعدم أمانته - والإنسان وإن كان في نفسه مُزِّيفاً إلا أنه يحب أنْ يحتكم في أمره إلى الأمين العادل - وفعلاً تغلّب اليهودي وذهبا إلى رسول الله فحكم لليهودي . وفي هذا دلالة على أن اليهودي كان ذكياً فَطِناً ، يعرف الحق ويعرف مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم . لكن المنافق لم يَرْضَ حكم رسول الله ، وانتهى بهما الأمر إلى عمر رضي الله عنه وقَصَّا عليه ما كان ، ولما علم أن المنافق رَدَّ حكم رسول الله قام عمر وجاء بالسيف يُشْهِره في وجه المنافق وهو يقول : مَنْ لم يَرْضَ بقضاء رسول الله فذلك قضائي فيه . إذن : فهؤلاء يقولون : { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا … } [ النور : 47 ] كلام جميل وأكثر الله من خيركم ، لكن هذا قول فقط لا يسانده تطبيق عملي ، والإيمان يقتضي أن تجيء الأعمال على وَفْق منطوق الإيمان . فهذا منهم مجرد كلام ، أما التطبيق : { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ … } [ النور : 47 ] والتولِّي : الانصراف عن شيء كان موجوداً إلى شيء مناقض { وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 47 ] فما داموا قد تولوا فهم لم يطيعوا ولم يؤمنوا .