Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 64-64)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ألا : أداة تنبيه لشيء مهم بعدها ، والتنبيه يأتي لأن الكلام سفارة بين المتكلم والمخاطب ، المتكلم عادة يُعد كلامه ، ولديْه أُنْسُّ بما سيقول ، لكن المخاطب قد لا يكون خالي الذِّهْن فيفاجئه القول ، وربما شغله ذلك عن الكلام ، فيضيع منه بعضه . والحق - تبارك وتعالى - يريد ألاَّ يضيع منك حرف واحد من كلامه ، فينبهك بكلمة هي في الواقع لا معنى لها في ذاتها ، إلا أنها تنبهك وتُذهِب ما عندك من دهشة أو غفلة ، فتعي ما يُقال لك ، وهذا أسلوب عربي عرفته العرب ، وتحدثتْ به قبل نزول القرآن . ويقول الشاعر الجاهلي يخاطب المرأة التي تناوله الكأس : @ أَلاَ هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبِحِينَا وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدرِينَا @@ يريد أن ينبهها إلى الكلام المفيد الذي يأتي بعد . وبعد ألا التنبيهية يقول سبحانه : { إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النور : 64 ] . والسماوات والأرض ظرف فيهما كل شيء في الكون العُلْوي والسُّفْلي ، فلله ما في السماوات وما في الأرض أي : المظروف فيهما ، فما بال الظرف نفسه ؟ قالوا : هو أيضاً لله ، كما جاء في آية أخرى : { للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النور : 42 ] إذن : فالظرف والمظروف مِلْك له سبحانه . وعادةً ما يكون الظرف أقلَّ قيمةً من المظروف فيه ، فما بداخل الخزينة مثلاً أثمن منها ، وما بداخل الكيس أثمن منه ، وكذلك عظمة السماوات والأرض بما فيهما من مخلوقات . لذلك إياك أنّْ تجعل المصحف الشريف ظرفاً لشيء مهم عندك فتحفظه في المصحف لأنه لا شيء أغلى ولا أثمن من كتاب الله ، فلا يليق أن تجعله حافظةً لنقودك ، أو لأوراقك المهمة لأن المحفوظ عادة أثمن من المحفوظ فيه . وفي الآية : { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ النور : 64 ] أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور ، فكلُّ ما في السماوات ، وكل ما في الأرض مِلْكٌ لله وحده ، لا يشاركه فيه أحد ، وعلى كثرة المفترين في الألوهية والفرعونية لم يَدَّعِ أحد منهم أن له مُلْكَ شيء منها . حتى إن النمرود الذي جادل أبانا إبراهيم عليه السلام وقال : أنا أُحي وأميت لمَّا قال له إبراهيم : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ … } [ البقرة : 258 ] لم يستطع فِعْل شيء وبُهِت وانتهت المسألة . ومُلْكه تعالى لم يقتصر على الخَلْق ، فخَلَق الأشياء ثم تركها تؤدي مهمتها وحدها ، إنما خلقها وله تعالى قيومية على ما خلق ، وتصرّف في كل شيء ، فلا تظن الكون من حولك يخدُمك آلياً ، إنما هو خاضع لإرادة الله وتصرّفه سبحانه . فالماء الذي ينساب لك من الأمطار والأنهار قد يُمنع عنك ويصيب أرضك الجفاف ، أو يزيد عن حَدِّه ، فيصبح سيولاً تغرق وتدمر ، إذن : المسألة ليست رتابة خَلْق ، وليست المخلوقات آلاتٍ ميكانيكية ، إنما لله المْلك والقيومية والتصرُّف في كل ما خلق . ثم يقول سبحانه : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ … } [ النور : 64 ] لفهم هذه الآية لا بُدَّ أن نعلم أن علاقة الحق - تبارك وتعالى - بالأحداث ليستْ كعلاقتنا نحن ، فنحن نعلم من علم النحو أن الأفعال ماضٍ ، وهو ما وقع بالفعل قبل أن تتكلم به مثل : جاء محمد ، ومضارع وهو إما للحال مثل : يأكل محمد . أو للاستقبال مثل : سيأكل محمد . أما بالنسبة لله تعالى ، فالأحداث سواء كلها مَاضٍ وواقع ، وقد تكلمنا في هذه المسألة في قوله تعالى : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] . ومعلوم أن الاستعجال يكون للأمر الذي يأْتِ بَعْد ، والقيامة لم تأتِ بعد لكن عبَّر عنها بالماضي أتى لأنه سبحانه لا يعوقه ولا يُخرجه شيء عن مراده ، فكأنها أتتْ بالفعل ، إذن : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] ليست منطقية مع كلامك أنت ، إنما هي منطقية مع كلام الله . كذلك في قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ … } [ النور : 64 ] فقد : للتحقيق ، ويعلم بالنسبة لله تعالى تعني عَلِم ، لكنه بالنسبة لك أنت يعلم : إذن : فهناك طرف منك وطرف من الحق سبحانه ، فبالنسبة للتحقيق جاء بقد ، وبالنسبة للاستقبال جاء بيعلم . ثم يقول سبحانه : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ } [ النور : 64 ] وجاء في آية أخرى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] . فإياك أن تفهم أن نظر الله ورؤيته سبحانه للأبعاض المختلفة في الأماكن المختلفة رؤية جزئية ، تتجه إلى شيء فلا ترى الآخر ، إنما هي رؤية شاملة ، كأن لكل شيء رؤية وحده ، وهذا واضح في قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ … } [ الرعد : 33 ] . فسبحانه لا يشغله سَمْع عن سمع ، ولا بَصَر عن بصر ، فبصره سبحانه محيط ، واطلاعه دقيق لذلك يأتي جزاؤه حقاً يناسب دِقّة اطلاعه ، فإياك إذن أن تغفل هذه الحقيقة ، فربُّك قائم عليك ، ناظر إليك ، لا تَخْفى عليه منك خافية . فيا مَنْ تتسلل لِواذاً احذر ، فلا شيء أهمّ من مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله نفسه كان حريصاً أن يرى أصحابه في مجلسه باستمرار ، والله تعالى يوصيه بذلك فيقول له : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ … } [ الكهف : 28 ] . وكان بعض أصحابه يُصلِّي خلفه ، فكان عندما يسلم ينصرف الرجل مسرعاً فيراه صلى الله عليه وسلم في أول الصلاة ، ولا يراه في آخرها ، فاستوقفه في إحدى الصلوات وقال له : " أزهداً فينا " ؟ وكأنه يعزّ على رسول الله أن يجد أحد أصحابه لا يتواجد مع حضرته ، أو يَزْهَد في مجلسه ، فيُحرم من الخيرات والتجليات التي تتنزل على مجلس رسول الله ، ويُحرَم من إشعاعات بصيرته وبصره إليه . لذلك أُحرِج الرجل ، وأخذ يوضح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدفعه كل صلاة إلى الإسراع بالانصراف ، وأن هذا منه ليس زهداً في حضرة رسول الله ومجلس رسول الله ، فقال : يا رسول الله إن لي امرأة بالبيت تنتظر ردائي هذا لتصلي فيه . يعني : ليس لديه في بيته إلا ثوبٌ واحد ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالخير ، فلما عاد لزوجته سألته عن سبب غيابه ، فقصَّ عليها ما كان من أمر رسول الله ، وأنه استوقفه وحكى لها ما دار بينهما ، فقالت لزوجها : أتشكو ربك لمحمد ؟ ولما سألوها بعد ذلك قالت : " غاب عني مقدار مائة تسبيحة " فانظر إلى ساعتها التي تضبط عليها وقتها .