Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 19-19)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

بعد أن سألهم الحق - تبارك وتعالى - وهو أعلم بهم : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ … } [ الفرقان : 17 ] وأجابوا : { وَلَـٰكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ نَسُواْ ٱلذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } [ الفرقان : 18 ] وقد هَزَّهم هذا السؤال هِزَّة عنيفة أراد سبحانه أنْ يُبرئهم فقال { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ … } [ الفرقان : 19 ] يعني : أنا أعرف أنكم قلتم الحق ، لكنهم كذَّبوكم بما تقولون { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً … } [ الفرقان : 19 ] فالتفت إليهم . والصرف : أن تدفع بذاتك عن ذاتك الشر إنْ تعرّض به أحد لك ، والنصر : إذا لم تستطع أنت أنْ تدفع عن نفسك فيأتي مَنْ يدفع عنك . ثم يقول سبحانه : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } [ الفرقان : 19 ] وقد يسأل سائل : لماذا يخاطب الحق سبحانه أولياءه بهذا العنف ؟ قالوا : في الواقع ليس هذا العنف نَهْراً لأولياء الله ، إنما زجر ولَفْتُ نظرٍ للآخرين ، فإذا كان الحق سبحانه يخاطب أهل طاعته بهذا العنف ، فما بالك بأعدائه ، والخارجين على منهجه ؟ إنهم حين يسمعون هذا الخطاب لا بُدَّ أن يقولوا : مع أن الله اصطفاهم وقرّبهم لم يمنعه ذلك أنْ يُوجِّههم إلى الحق وينهرهم . ألم يقل سبحانه عن حبيبه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] فالحق - تبارك وتعالى - يتحدث عن نبيه بهذه الطريقة ليخيف الآخرين ويرهبهم . والظلم : أخْذُ حقِّ الغير ، ما دام أن الله تعالى حرَّم ذلك ، فهذا يعني أن الله يريد أنْ يتمتع كل واحد بثمرة مجهوده لأن أمور الحياة لا تستقيم إنْ أخذ الإنسان ثمرةَ غيره ، وتعوَّد أن يعيش على دماء الآخرين وعَرقهم لذلك نرى في المجتمع بعض المجرمين والمنحرفين الفاقدين الذين يعيشون على عَرق الآخرين وهم لا يعرقون . وحين يُؤخَذ الحق من صاحبه ، ثم لا يجد مَنْ ينصفه ، ويعيد له حقه المسلوب يميل إلى الكسل ويزهَد في العمل وبذْل المجهود ، ومعلوم أن العمل لا تعود ثمرته على صاحبه فحسب ، وإنما على الآخرين حيث يُيسِّر للناس مصالحهم ، ويُسهِم بحركته في حركة المجتمع . وسبق أن قلنا : إن الفرْق بين المؤمن وغيره في العمل أن الكافر يعمل لنفسه ، أمّا المؤمن فيعمل لما يكفيه ، ويجهد ليساعد الآخرين لذلك عليك أن تعمل على قَدْر طاقتك لا على قَدْر حاجتك ، فحاجتك تتوفر لك مما أتيته بطاقتك ، ثم يكون الباقي عندك لمن لا يقدر على العمل وليس لديه طاقة . والمعركة التي تدور بين الكفار والمؤمنين وعلى رأسهم الرسل ، اللهُ تعالى يفصل فيها ، يقول : لا يستطيع أحد من خَلْقي أن يظلمني ، لأن المظلوم فيه نقطة ضعف ، والظالم فيه نقطة قوة لذلك يقول سبحانه : { وَمَا ظَلَمُونَا … } [ البقرة : 57 ] أي : لا يقدر أحد على ذلك { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] فظُلْمهم لأنفسهم ، لا للمؤمنين . فالحق - تبارك وتعالى - يغَارُ على عبده أن يظلم نفسه لأن للإنسان ملكات متعددة : ملكة الاشتهاء العاجل وملكة التأنِّي الآجل . فالتلميذ المجتهد اختار الراحة الآجلة ، والكسول اختار الراحة العاجلة ، فكلاهما مُحِبٌّ لنفسه يسعى إلى راحتها ، لكن فَرْق بين حُبِّ واعٍ ، وحُبٍّ أحمق ، فالأول يتحمل المشاق لينال في نهاية الأمر أعلى المراتب ، والآخر تستهويه الراحة العاجلة ، وسرعان ما يجد نفسه صُعْلوكاً في المجتمع ، فمتعة الأول أبقى وأطول ، ومتعة الآخر سريعة منتهية . هذه قاعدة عامة تُقال في عمل الدنيا ، وتُقال في عمل الآخرة ، فالحق - تبارك وتعالى - خلق الإنسان ويحب منه ألاَّ تظلم ملكَة في النفس ملكةً أخرى ، وألا تظلم ملكة العجلة ملكة التأنِّي لأن ملكة العجلة تأخذ خيراً عاجلاً منتهياً ، أما ملكة التأني فتنال الخير الآجل الباقي غير المنتهي . إذن : فالله تعالى يريد لصنعته ، سواء المؤمن أو الكافر ألاّ يظلم نفسه لأن الله كرَّمه وخلق الكون كله لخدمته وسخَّره من أجله لذلك يقول له : إنك لا تستطيع أن تظلمني ولا تظلم المؤمنين ، إنما تظلم نفسك ، فربٌّ يعاقب الإنسان على أنه ظلم نفسه فهو نِعْم الربّ . لذلك جاء في الحديث القدسي : " يا ابن آدم ، أنا لك مُحبٌّ - بدليل أنني أعاقبك إذا ظلمتَ نفسك - فبحقِّي عليك كُنْ لي مُحِباً " . وحين يُضخِّم الحق - سبحانه وتعالى - العقوبة : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } [ الفرقان : 19 ] إنما ليُنفِّر عباده منها ، ويبتعد بهم عن أسبابها ، فلا تقع . وكثيراً ما يعترض أعداء الإسلام على قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ … } [ البقرة : 256 ] يقولون : فلماذا تقتلون مَنْ يرتدّ عن الإسلام ؟ وهؤلاء لا يَدْرُون أن هذا الحكم نضعه عقبةً في طريق كل مَنْ يريد الإيمان ، وتنبيه له حتى يفكر جيداً فيما هو مُقبل عليه إن اختار الإسلام ، فلا يدخله إلا بعد رضاً واقتناع تام ، وحين يعلم هذا الحكم يحتاطُ للأمر فيدخل عليه بمَحْضِ اختياره وتعقّله . فالإسلام لا يريد كثرة مُتسرِّعة ، إنما يريد تروياً وتعقّلاً وتدبراً ، وهذا يُحسب للإسلام لا عليه ، فهو سلعة غالية يثق صاحبها في جَوْدتها ، كما تذهب إلى تاجر القماش مثلاً ، فيعرض عليك بضاعته ويُظهِر لك جودتها ويختبرها أمامك ، لماذا ؟ لأنه واثق من جودة بضاعته . ومن ذلك ما خُتِمَتْ به كثير من آيات الذكر الحكيم مثل : تفكَّرون ، تعقلون ، تذكَّرون . وهذا دليل على أنك لو تعقلتَ ، لو تدبرتَ ، لو تذكرتَ لاهتديت إلى ما جاء به القرآن . إذن : فقوله تعالى : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } [ الفرقان : 19 ] كان الذي يؤخذ على القرآن ، أو على الحق سبحانه أن الظالم حين يظلم هو يُعاقِب لنفسه حيث أُخِذ منه شيء ، لكن الحق سبحانه ما أُخذ منه شيء ، إنما هو سبحانه بصفات الكمال فيه سبحانه خلقكم ، فما ظلمتم إلا أنفسكم . ثم يقول الحق سبحانه عن رسله وأنبيائه : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ … } .