Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 20-20)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سبق أن تكلمنا في قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ … } [ الفرقان : 7 ] وهذه صِفَة كل الرسل ، وليس محمد بِدْعاً في ذلك ، وإذا كان أكْل الطعام يقدح في كونه صلى الله عليه وسلم رسولاً ، وكانوا يريدون رسولاً لا يأكل الطعام ، فنقول : بالله إذا كان أكْل الطعام منعه عندكم أن يكون رسولاً ، فكيف تقولون لمن أكل الطعام أنه إله ؟ كيف وأنتم ما رضيتم به رسولاً ؟ وقد جعل الحق - تبارك وتعالى - الرسل يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق لأن الرسول يجب أن يكون قدوة وأُسوْة في كل شيء للخَلْق ، ولذلك كان رسول الله على أقلِّ حالات الكون المادية من ناحية أمور الدنيا من أكْل وشُرْب ولباس ، ذلك ليكون أُسْوة للناس ، وكذلك نجده صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يكون أهل بيته مثله ، لذلك لم يجعل لهم نصيباً في الزكاة التي يأخذها أمثالهم من الفقراء . ويقول صلى الله عليه وسلم : " إنَّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " . ومَنْ كان عليه دَيْن من المسلمين تحمّله عنه رسول الله ، وهذا كله إنْ دلَّ فإنما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم واثق من جزاء أُخْراه ، فلا يُحبّ أن يناله منه شيء في الدنيا . لذلك قُلْنا : لو نظرتَ في مبادىء الحق ومبادىء الباطل أمامك في الدنيا لوجدتَ أن مبدأ الباطل يدفع ثمنه أولاً ، فمثلاً لكي تكون شيوعياً لا بُدَّ أن تأخذ الثمن أولاً ، أما مبدأ الحق فأنت تدفع الثمن مُقدّماً : تتعب وتُظلم وتُعذَّب وتجوع وتتشرد ، وتخرج من أهلك ومن مالك ، ثم تنتظر الجزاء في الآخرة . وبهذا المقياس تستطيع أنْ تُفرِّق بين الحق والباطل . وقوله تعالى : { وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ … } [ الفرقان : 20 ] أي : يرتادونها لقضاء مصالحهم وشراء حاجياتهم ، دليلٌ على تواضعهم وعدم تكبُّرهم على مثل هذه الأعمال لذلك كان سيدنا رسول الله يحمل حاجته بنفسه ، فإنْ عرض عليه أحدُ صحابته أنْ يحملها عنه يقول صلى الله عليه وسلم : " صاحب الشيء أحقُّ بحمله " . ومعنى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ … } [ الفرقان : 20 ] فأيّ بعض فتنة لأيِّ بعض ؟ كما في قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ … } [ الزخرف : 32 ] أيُّ بعض مرفوع ، وأيّ بعض مرفوع عليه ؟ نلاحظ في مثل هذه المسائل أن الناس لا تنظر إلا إلى زاوية واحدة : أن هذا غنيٌّ وهذا فقير ، لكنهم لو أخذوا في المفاضلة بكل جوانب النفس الإنسانية لوجدوا أن في كل إنسان موهبةً خَصّه الله بها ، فكلٌّ مِنّا عنده مَيْزةٌ ليست عند أخيه ذلك ليتكاتف الناس ويتكامل الخَلْق لأن العالم لو كان نسخة واحدة مكررة ما احتاجَ أحدٌ لأحد ، وما سأل أحد عن أحد ، أمّا حين تتعدد المواهب فيكون عندك ما ليس عندي ، فيترابط المجتمع ترابط الحاجة لا ترابط التفضل . ولو تصورنا الناس جميعاً تخرجوا في الجامعة وأصبحوا دكاترة فمَنْ يكنس الشارع ؟ ساعتها سيتطوع أحدنا يوماً لهذه المهمة ، إذن : تصبح الحاجة بنت تطوُّع وتفضُّل ، والتفضُّل لا يُلزِم أحداً بعمل ، فقد تتعطل المصالح . أمّا حين تدعوك الحاجة فأنت الذي تُسرع إلى العمل وتبحث عنه . أَلاَ ترى أصحاب المهن الشاقة يخرجون في الصباح يبحثون عن عمل ، ويغضب الواحد منهم إذا لم يجد فرصة عمل في يومه مع ما سيتحمله من آلام ومشاق ، لماذا ؟ إنها الحاجة . فالعامل الذي يعمل في المجاري مثلاً ويتحمَّل أذاها هو في قدرته على نفسه ورضاه بقدَر الله فيه أفضل مِنِّي أنا في هذه المسألة ، لأنني لا أقدر على هذا العمل وهو يقدر ، ولو ترك الله مثل هذه الأعمال للتفضّل ما أقدم عليها أحد ، إذن : التسخيرات من الحق سبحانه وتعالى لحكمه . ومثل هذه الأعمال الشاقة أو التي تؤذي العامل يعدُّها البعض أعمالاً حقيرة ، وهذا خطأ ، فأيُّ عمل يُصلح المجتمع لا يُعَدُّ حقيراً ، فلا يوجد عمل حقير أبداً ، وإنما يوجد عامل حقير . فمعنى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً … } [ الفرقان : 20 ] كل بعض منا فتنة للآخر ، فالغنيُّ فتنةٌ للفقير ، والفقير فتنة للغني … إلخ فحين يتعالى الغني على الفقير ويستذلّه فالفقير هنا فتنة للغني ، وحين يحقد الفقير على الغني ويحسده ، فالغنيّ هنا فتنة للفقير ، وهكذا الصحيح فتنة للمريض ، والرسل فتنة لمن كذّبوهم ، والكفار فتنة للرسل . والناس يفرون من الفتنة في ذاتها ، وهذا لا يصح لأن الفتنة تعني الاختبار ، فالذي ينبغي أن نفر منه نتيجة الفتنة ، لا الفتنة ذاتها ، فالامتحان فتنة للطلاب ، مَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ . إذن : الفتنة في ذاتها غير مذمومة . لذلك تُؤخَذ الفتنة من فتنة الذهب حين يُصْهر ، ومعلوم أن الذهَب أفضل المعادن ، وإنْ وُجد ما هو أنفس منه ، لماذا ؟ لأن من مَيْزاته أنه لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره ، وهو كذلك سهل السَّبْك لذلك يقولون : المعدن النفيس كالأخيار بَطيءٌ كَسْره ، سريع جَبْره . فمثلاً حين يتكسر الذهب يسهل إعادته وتصنيعه على خلاف الزجاج مثلاً . إذن : الفتنة اختبار ، الماهر مَنْ يفوز فيه ، فإنْ كان غنياً كان شاكراً مُؤدِّياً لحقِّ الغني مُتواضعاً يبحث عن الفقراء ويعطف عليهم ، والفقير هو العاجز عن الكسب ، لا الفقير الذي احترف البلطجة وأَكْل أموال الناس بالباطل . ولما كانت الفتنة تقتضي صَبْراً من المفتون ، قال سبحانه : { أَتَصْبِرُونَ … } [ الفرقان : 20 ] فكل فتنة تحتاج إلى صبر ، فهل تصبرون عليها ؟ ولأهمية الصبر يقول تعالى في سورة العصر : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1 - 2 ] يعني : مُطلَق الإنسان في خُسْر لا ينجيه منه إلاّ أنْ يتصف بهذه الصفات : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 3 ] . وتُختم الآية بقوله سبحانه : { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } [ الفرقان : 20 ] لينبهنا الحق سبحانه أن كل حركة من حركاتكم في الفتنة مُبْصَرة لنا ، وبصرنا للأعمال ليس لمجرد العلم ، إنما لنُرتِّب على الأعمال جزاءً على وَفْقها . ثم يقول الحق سبحانه : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا … } .