Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ تَبَارَكَ … } [ الفرقان : 1 ] مادة الباء والراء والكاف عادةً تدلُّ على البركة ، وهي أن يعطيك الشيء من الخير فوق ما تظن فيه ويزيد عن تقديرك ، كما لو رأيتَ طعام الثلاثة يكفي العشرة ، فتقول : إن هذا الطعام مُبَاركٌ أو فيه بركة . ومن معاني تبارك : تعالى قَدْره و { تَبَارَكَ … } [ الفرقان : 1 ] تنزّه عن شبه ما سواه ، وتبارك : عَظُم خَيْره وعطاؤه . وهذه الثلاثة تجدها مُكمِّلة لبعضها . ومن العجيب أن هذا اللفظ { تَبَارَكَ … } [ الفرقان : 1 ] مُعجز في رَسْمه ومُعْجز في اشتقاقه ، فلو تتعبتَ القرآن لوجدتَ أن هذه الكلمة وردتْ في القرآن تسْع مرات : سبع منها بالألف { تَبَارَكَ … } [ الفرقان : 1 ] ومرتان بدون الألف ، فلماذا لم تُكتب بالألف في الجميع ، أو بدونها في الجميع ؟ ذلك ليدلُّك على أن رَسْم القرآن رَسْم توقيفيّ ، ليس أمراً ميكانيكياً ، كما في قوله تعالى في أول سورة العلق : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] فرَسْم كلمة اسم هنا بالألف ، وفي باقي القرآن بدون الألف . إذن : فالقرآن ليس عادياً في رَسْمه وكتابته ، وليس عادياً في قراءته ، فأنت تقرأ في أي كتاب آخر على أيِّ حال كنتَ ، إلا في القرآن لا بُدَّ أن تكون على وضوء وتدخل عليه بطُهْر … الخ ما نعلم من آداب تلاوة القرآن . ومن حيث الاشتقاق نعلم أن الفعل يُشتَقُّ منه الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل … الخ ، لكن { تَبَارَكَ … } [ الفرقان : 1 ] لم يذكر منها القرآن إلا هذه الصيغة ، وكأنه يريد أنّْ يخصَّها بتنزيه الله تعالى ، مثلها مثل كلمة سبحان لذلك على كثرة ما مرَّ في التاريخ من الجبابرة أرغموا الناس على مدحهم والخضوع لهم ، لكن ما رأينا واحداً مهما كان مجرماً في الدين يقول لأحد هؤلاء : سبحانك . لذلك نقول في تسبيح الله : سبحانك ، ولا تُقال إلا لك . مهما اجترأ الملاحدة فإنهم لا ينطقونها لغير الله . إذن : { تَبَارَكَ … } [ الفرقان : 1 ] تدور حول معَانٍ ثلاثة : تعالى قَدْره ، وتنزَّه عن مشابهة ما سواه ، وعَظُم خَيْره وعطاؤه ، ومَنْ تعاظُم خَيْره سبحانه أنه لا مثيل له : في قَدْره ، ولا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في فعله . وهذا كله من مصلحتنا نحن ، فلا كبيرَ إلا الله ، ولا جبارَ إلا الله ، ولا غنيَّ إلا الله . وسُمِّي القرآن فرقاناً لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل ، وقد نزل القرآن ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور ، فيسير الناس على هُدىً وعلى بصيرة ، فالقرآن إذن فَرَق لهم مواضع الخير عن مواضع العطب ، فالفرقان سائر في كل جهات الدين ، ففي الدين قمة هي الحق - تبارك وتعالى - ومُبلِّغ عن القمة هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومُرْسَل إليه هم المؤمنون ، فجاء القرآن ليفرُقَ بين الحق والباطل في هذه الثلاثة . ففي القمة ، وُجد مَنْ ينكر وجود إله خالق لهذا الكون ، وآخرون يقولون بوجود آلهة متعددة ، وكلاهما على طرفي نقيض للآخر ، ليس هناك سيال فكر يجمعهم ، فجاء القرآن ليفرق بين الحق والباطل في هذه المسألة ، ويقول : الأمر وسط بين ما قُلْتم : فالإله موجود ، لكنه إله واحد لا شريكَ له ، ففرقَ في مسألة القمة . كذلك فَرق في مسألة الرسول وهو بشر من قومه ، فلما اعترض بعضهم عليه وحسدوه على هذه المكانة وهو واحد منهم أيَّده الله بالمعجزة التي تُؤيده وتُظهِر صِدْقه في البلاغ عن الله ، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في شيء نبغ فيه القوم ، وهي الفصاحة والبلاغة والبيان ، والعرب أهل بيان ، وهذه بضاعتهم الرائجة وتحدَّاهم بهذه المعجزة فلم يستطيعوا . وكذلك فَرَق في مسألة الخَلْق من حيث مُقوِّمات حياتهم ، فبيَّن لهم الحلال والحرام ، وفي استبقاء النوع بيَّن لهم الحلال ، وشرع لهم الزواج ، ونهاهم عن الزنا ليحفظ سلالة الخليفة لله في الأرض . إذن : فَرق القرآن في كل شيء : في الإله ، وفي الرسول ، وفي قِوَام حياة المرسَل إليهم ، وما دام قد فَرقَ في كل هذه المسائل فلا يوجد لفظ أفضل من أن نُسمِّيه " الفرقان " . ولا شكَّ أن الألفاظ التي ينطق بها الحق - تبارك وتعالى - لها إشعاعات ، وفي طياتها معَانٍ يعلمها أهل النظر والبصيرة ممَّنْ فتح الله عليهم ، وما أشببها بفصوص الماس ! والذي جعل الماس ثميناً أن به في كل ذرة من ذراته تكسراتٍ إشعاعية ليست في شيء غيره ، فمن أيِّ ناحية نظرتَ إليه قابلك شعاع معكوس يعطي بريقاً ولمعاناً يتلألأ من كل نواحيه ، وكذلك ألفاظ القرآن الكريم . ومن معاني الفرقان التي قال بها بعض العلماء أنه نزل مُفَرَّقاً ، كما جاء في قوله تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ … } [ الإسراء : 106 ] يعني : أنزلناه مُفرَّقاً لم ينزل مرة واحدة كالكتب السابقة عليه ، وللحق - تبارك وتعالى - حكمة في إنزال القرآن مُفرقاً ، حيث يعطي الفرصة لكل نَجْم ينزل من القرآن أنْ يستوعبه الناس لأنه يرتبط بحادثة معينة ، كذلك ليحدث التدرّج المطلوب في التشريعات . يقول تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] . لقد كان المسلمون الأوائل في فترة نزول القرآن كثيري الأسئلة ، يستفسرون من رسول الله عن مسائل الدين ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ … } [ البقرة : 189 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ … } [ البقرة : 219 ] { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ … } [ الأنفال : 1 ] فكان النجم من القرآن ينزل ليُجيب عليهم ويُشرِّع لهم ، وما كان يتأتَّى ذلك لو نزل القرآن جملة واحدة . وكلمة : { نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ … } [ الفرقان : 1 ] تؤيد هذا المعنى وتسانده لأن نزّل تفيد تكرار الفعل غير " أنزل " التي تفيد تعدِّى الفعل مرة واحدة . وقوله تعالى : { عَلَىٰ عَبْدِهِ … } [ الفرقان : 1 ] كأن حيثية التنزيل عليه هي العبودية لله تعالى ، فهو العبد المأمون أن ينزل القرآن عليه . وسبق أن قلنا : أن العبودية لفظ بغيض إنِ استُعمِل في غير جانب الحق سبحانه ، أمّا العبودية لله فهي عِزٌّ وشرف ولفظ محبوب في عبودية الخَلْق للخالق لأن العبودية للبشر يأخذ السيد خير عبده ، أمّا العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده . لذلك جعل الله تعالى العبودية له سبحانه حيثية للارتقاء السماوي في رحلة الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ … } [ الإسراء : 1 ] فالرِّفْعة هنا جاءتْ من العبودية لله . ثم يقول سبحانه : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] العالمين : جمع عَالَم ، والعَالَم ما سوى الله تعالى ، ومن العوالم : عالم الملائكة ، عالم الإنس ، وعالم الجن ، وعالم الحيوان ، وعالم النبات ، وعالم الجماد ، إلا أن بعض هذه العوالم لم يَأْتِها بشير ولا نذير لأنها ليست مُخيَّرة ، والبشارة والنذارة لا تكون إلا للمخيّر . يقول تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] . فإنْ عزلْتَ من هذه العوالم مَنْ ليس له اختيار ، فيتبقى منها : الجنّ والإنس ، وإليهما أُرسِل الرسول صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً ، لكن لماذا قال هنا { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] ولم يقل : بشيراً ونذيراً ؟ قالوا : لأنه سبحانه سيتكلم هنا عن الذين خاضوا في الألوهية ، وهؤلاء تناسبهم النِّذَارة لا البشارة لذلك قال في الآية بعدها : { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } .