Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 37-37)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر الحق - تبارك وتعالى - نوحاً بعد موسى عليهما السلام لأن كلاً منهما تميَّز في دعوته بشيء ، وتحمَّل كل منهما ألواناً من المشقة ، فموسى واجه مَنِ ادعى الألوهية ، ونوح أخذ سُلْطة زمنية واسعة انتظمتْ كل الموجودين على الأرض في وقته - ولا يعني هذا أنه - عليه السلام - أُرسِل إلى الناس كلهم ، إنما كان قومه هم الموجودون على الأرض في هذا الوقت - فقد لَبِثَ فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً . واقرأ قصته - عليه السلام - في سورة نوح لتقف على مدى معاناته في دعوة قومه طوال هذه الفترة ، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل ، وكانت الغَلَبة له في النهاية . وأيضاً لأنه - عليه السلام - تعرّض لأمر يتعلق بالبنوة ، بُنوّة في المنهج ، وبُنوة في النسب ، فقد كان ابنه - نسباً - كافراً ، ولم يتمكن من هدايته ، ولما قال لربه عز وجل { إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي … } [ هود : 45 ] قال له : { يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ … } [ هود : 46 ] . فجعل حيثية النفي { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ … } [ هود : 46 ] فالنسب هنا عمل وطاعة ، فكأن البنوة للأنبياء بنوة عمل ، لا بنوة نسب ، فابنك الحق مَنْ سار على منهجك ، وإنْ لم يكُنْ من دمك . مسألة أخرى نلحظها في الجمع بين موسى ونوح عليهما السلام في مقام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهما يشتركان في ظاهرة كونية تستحق التأمل والنظر ، فكل مظاهر الكون التي أمامنا لو حققنا في كل مظهر من مظاهرها بعقل وتُؤدَة ويقين لأمكَننا أن نستنبط منها ما يُثري حياتنا ويُترِفها ويُسعدها . لذلك الحق - تبارك وتعالى - ينعى على الذين يُعرضون عن النظر في آياته ، فيقول : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . وسبق أن قلنا : إن كل المخترعات التي رفَّهتْ حياة الناس وأسعدتهم ، وقلّلت مجهوداتهم ، وقصّرت الوقت عليهم ، كانت نتيجة الملاحظة والتأمل في مظاهر الكون كالذي اخترع العجلة والبخار … إلخ . وهنا نلاحظ أن العلاقة بين موسى ونوح - عليهما السلام - أن الله تعالى يُهلِك ويُنجي بالشيء الواحد ، فالماء الذي نجَّى موسى هو الماء الذي أغرق فرعون ، والماء الذي نجَّى نوحاً هو الماء الذي أغرق الكافرين من قومه . فهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى إنْ أراد الإنجاء يُنجِّي ، وإنْ أراد الإهلاك يُهلِك ، ولو بالشيء الواحد . ألاَ ترى أن أصحاب موسى حينما رأوا البحر من أمامهم ، وفرعون من خلفهم قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] فهذه حقيقة وقضية كونية مَنْ يملك ردّها ؟ إنما ردها موسى فقال كَلاَّ لن نُدرَك ، قالها بملء فيه ، لا ببشريته ، إنما بالربوبية التي يثق في أنها لن تسلمه ، { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] . وكذلك كانت مسألة نوح عليه السلام ، لكن بطريقة أخرى ، هي السفينة ، وفكرة السفينة لم تكُنْ موجودة قبل نوح عليه السلام ، ألم يصادف واحد شجرة مُلْقاة في الماء تطفو على سطحه ، ففكّر في ظاهرة الطفو هذه ، وكيف أن الشجرة لم تغطس في الماء لقد كان النجارون الماهرون يقيسون كثافة الخشب بأن يُلْقوه في الماء ، ثم ينظروا مقدار الغطس منه في الماء ، وعليه يعرفون كثافته . هذه الظاهرة التي تنبه لها أرشميدس وبنَى عليها نظرية الأجسام الطافية والماء المُزَاح ، وتوصّل من خلالها إلى النقائض ، فبها تطفو الأشياء أو تغوص في الماء ، إنْ زادت الكثافة يثقل الشيء ويغوص في الماء ، وإنْ قلَّتْ الكثافة يطفو . وتلاحظ ذلك إذا رميتَ قطعة نقود مثلاً ، فإنها تغطس في الماء ، فإنْ طرقتَها حتى جعلتها واسعةَ الرقعة رقيقة ، فإنها تطفو مع أن الكتلة واحدة ، نعم الكتلة واحدة ، لكن الماء المُزَاح في الحالة الثانية أكثر ، فيساعد على طفْوها . وقد أراد الحق - تبارك وتعالى - أن يُنبِّه الإنسان إلى هذه الظواهر ، ويهديه إلى صناعة السفن التي تحمله في الماء لأن ثلاثة أرباع الكرة الأرضية مياه ، وقد جعل الله لك وسائل مواصلات في الربع ، أَلاَ يجعل لك مواصلات في الثلاثة أرباع ، فتأخذ خيرات البحر ، كما أخذت خيرات البَرِّ ؟ وتأمل أسلوب القرآن : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ … } [ الفرقان : 37 ] ومعلوم أنهم كذَّبوا رسولهم نوحاً لا جميع الرسل ، قالوا : لأن النبوة لا تأتي بمتعارضات ، إنما تأتي بأمور مُتفق عليها لذلك جعل تكذيبَ رسول واحد كتكذيب جميع الرسل . ثم ذكر عاقبة ذلك : { أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً … } [ الفرقان : 37 ] وكلمة { أَغْرَقْنَاهُمْ … } [ الفرقان : 37 ] تعني : أن الذي أغرق المكذبين نَجَّى المؤمنين ، وإغراق المكذبين أو عملية تردُّ على سخريتهم من نوح ، حينما مرُّوا عليه وهو يصنع السفينة : { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] . ولم يكن الغرق نهاية الجزاء ، إنما هو بدايته ، فهناك العذاب الذي ينتظرهم في الآخرة : { وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفرقان : 37 ] وهكذا جمع الله عليهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . ثم يضرب الحق - تبارك وتعالى - لرسوله مثلاً آخر : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ ٱلرَّسِّ … } .