Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 45-45)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحق - سبحانه وتعالى - وهو خالق الآيات في الكون يُنبِّه إليها الخَلْق ، وكان من المفروض ممَّن يرى الآيات أنْ يتنبه إليها دون أنْ يُنبه ، فإذا رأى عجيبة من عجائب الكون تأملها ، وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً بمَنِ انقطعت به السُّبل في صحراء شاسعة ، ليس بها أنيس ولا حياة ، وقد بلغ به الجهد حتى نام ، فلما استيقظ وجد مائدة عليها أطايب الطعام أو الشراب ، بالله قبل أنْ تمتدَّ يده إلى الطعام ، أليس من المفروض أنْ يفكر في هذا الطعام ، مَنْ أتى به ؟ وأعدَّه على هذه الصورة ؟ إذن : في الكون آياتٌ كان يجب أنْ تشدَّ انتباهك لتبحث فيها وفي آثار وجودها وكلها آيات عالية عَنّا وفوق إمكاناتنا : الشمس والقمر ، الهواء والمطر … إلخ . ومع ذلك لم يتركك الله لأن تتنبه أنت ، بل نبَّهك ولفتَك وجذب انتباهك لهذه ولهذه . وهنا ، الحق - تبارك وتعالى - يعرض الآيات والكونيات التي يراها الإنسان برتابة كل يوم ، يراها الفيلسوف كما يراها راعي الشاة ، يراها الكبير كما يراها الصغير كل يوم على نظام واحد ، لا يكاد يلتفت إليها . يقول سبحانه : { أَلَمْ تَرَ … } [ الفرقان : 45 ] أي : ألم تعلم ، أو ألم تنظر إلى صَنْعة ربك { كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } [ الفرقان : 45 ] نعم نرى الظل ، فما هو ؟ الظل أنْ يَحْجب شيء كثيف على الأرض - مثل جبل أو بناء أو شجرة أو نحوه - ضوءَ الشمس ، فتظهر منطقة الظل في المكان المُشْمِس ، فالمسألة - إذن - متعلقة بالشمس ، وبالأرض التي نعيش عليها . وقد علمنا أن الأرض كرة تواجه الشمس ، فالجهة المواجهة منها للشمس تكون مُضَاءة ، والأخرى تكون ظلاماً لا نقول - ظلاً ، فما الفرق بين الظلِّ والظلام ؟ قالوا : إذا كان الحاجبُ لضوء الشمس من نفس الأرض فهي ظُلْمة ، وإنْ كان الحاجب شيئاً على الأرض فهو ظل . والظل نراه في كل وقت ، وقد ورد في عدة مواضع من كتاب الله ، فقال سبحانه : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } [ المرسلات : 41 ] . وقال : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ … } [ النحل : 48 ] . ينبهنا ربنا - تبارك وتعالى - إلى مهمة أخرى من مهام الظل ، وهي أنه يحمينا من وَخْزة الشمس وحرارتها ، ويرتقي الإنسان في استخدام الظل فيجعله كما قال تعالى { ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] أي : أن الظل نفسه مُظلَّل ، فيجعلون الخيمة مثلاً لها سقفان منفصلان حتى لا يتأثر داخلُ الخيمة بالحرارة خارجها . لذلك تجد ظل الشجرة ألطفَ من ظِلِّ الحائط مثلاً أو المظلة لأن أوراق الشجرة يُظلِّل بعضها بعضاً ، فالظل يأتيك من مُظلل آخر ، فتشعر تحت ظل الشجرة وكأنك في تكييف لأن الأوراق تَحجب عنك حرارة الشمس ، في حين تسمح بمرور الهواء ، كما قال الشاعر في وصف دوحة : @ يصدُّ الشمسَ أنَّى وَاجَهتْنَا فَيحْجُبُها وَيَأْذَنُ لِلْنَسِيمِ @@ وقال تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ … } [ الأعراف : 171 ] . وحين تتأمل هذه الظاهرة ساعة طلوع الشمس ترى الشيء الكثيف الذي يحجب ضوء الشمس يطول ظِلُّه إلى نهاية الأفق ، ثم يأخذ في القِصر كلما ارتفعتْ الشمس إلى أنْ يصير في زوال ، ثم ينعكس الظل مع ميل الشمس ناحية الغرب فيطول إلى نهاية الأفق . والحق - تبارك وتعالى - يريد منا أن نلاحظ هذه الظاهرة ، وأنْ نتأملها { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ … } [ الفرقان : 45 ] أي : ساعة طلوع الشمس { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً … } [ الفرقان : 45 ] لأن مشيئة الله تستطيع أن تخلق الشيء ونقيضه ، فإنْ شاءَ مَدَّ الظل ، وإنْ شاء أمسكه . ولكنه يتغير : ينقص في أول النهار ، ويزيد في آخره وكل ما يقبل الزيادة يقبل النقص ، والنقص أو الزيادة حركة ، وللحركة نوعان : حركة قَفْزية كحركة عقرب الدقائق في الساعة ، فهو يتحرك بحركة قفزية ، وهي أنْ يمرَّ على المتحرك وقت ساكن ثم يتحرك ، إنما أتدرك ذلك في حركة عقرب الساعات ؟ لا لأنه يسير بحركة انسيابية ، بحيث توزع أجزاء الحركة على أجزاء الزمن . ومثَّلْنا هذه الحركة بنمو الطفل الصغير الذي لا تدرك حركة نموه حالَ نظرك له منذ ولادته ، إنما إنْ غبْتَ عنه فترة أمكنك أنْ تلاحظ أنه يكبر ويتغير شكله لأن نموه مُوزَّع على فترات الزمن ، لا يكبر هكذا مرة واحدة ، فهي مجموعات كِبَر تجمعتْ في أوقات متعددة ، وليس لديك المقياس الدقيق الذي تلاحظ به كبر الطفل في فترة قصيرة . وإذا كنا نستطيع إجراء هذه الحركة في الساعات مثلاً ، فالحق - تبارك وتعالى - يُحدِثها في حركة الظل وينسبها لعظمها إلى نفسه تعالى لأن الظل لا يسير بحركة ميكانيكية كالتي تراها في الساعة إنما يسير بقدرة الله . والحق سبحانه يلفتنا إلى هذه الظاهرة ، لا لأنها مجرد ظاهرة كونية نراها ونتعجب منها ، إنما لأننا سنستغلها وننتفع بها في أشياء كثيرة . فقدماء المصريين أقاموا المسلات ليضبطوا بها الزمن عن طريق الظل ، وصنع العرب المسلمون المزْولة لضبط الوقت مع حركة الشمس ، ونرى الفلاح البسيط الآن ينظر إلى ظل شيء ويقول لك : الساعة الآن كذا لأنه تعوَّد أن يقيس الوقت بالظل ، مع أن مثل هذا التقدير يكون غير دقيق لأن للشمس مطالعَ متعددة على مرِّ أيام العام لذلك في أحد معابد الفراعنة معبد به 365 طاقة ، تدخل الشمس كل يوم واحدة منها . إذن : أفادنا الظل في المسلات والمزاول ، ومنها انتقل المسلمون إلى عمل الساعات ، وأولها الساعة الدقاقة التي كانت تعمل بالماء ، وقد أهدوْا شارلمان ملك فرنسا واحدة منها فقال : إن فيها شيطاناً ، هكذا كان المسلمون الأوائل . وقوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } [ الفرقان : 45 ] أي : أن الضوء هو الذي يدل على الظلِّ .