Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 53-53)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
تأتي هذه الآية استمراراً لذكْر بعض آيات الله في الكون التي تلفت نظر المكابرين المعاندين لرسول الله ، وسبق أنْ ذكر سبحانه : الظل والليل والرياح … الخ إذن : كلما ذكر عنادهم يأتي بآية كونية ليلفتهم إلى أنهم غفلوا عن آيات الله ، وجدالهم مع رسول الله يدل على أنهم لم يلتفتوا إلى شيء من هذا لذلك ذكر آية كونية من آيات الله المرئية للجميع ومكررة ، وعليها الدليل القائم إلى يوم القيامة ، فقال تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ … } [ الفرقان : 53 ] . المَرْج : المرعى المباح ، أو الكلأ العام الذي يسوم فيه الراعي ماشيته تمرح كيف تشاء . فمعنى { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ … } [ الفرقان : 53 ] أي : جعل العَذْب والمالح يسيران ، كُلٌّ كما يشاء ، لذلك تجد البحار والمحيطات المالحة التي تمثل ثلاثة أرباع اليابسة ليس لها شكل هندسي منتظم ، بل تجده تعاريج والتواءات ، وانظر مثلاً إلى خليج المكسيك أو خليج العقبة ، وكأن الماء يسير على هواه ودون نظام ، فلا يشكل مستطيلاً أو مربعاً أو دائرة . وكذلك الأنهار التي تولدتْ من الأمطار على أعلى الجبال ، فتراها حين تتجمع وتسير تسير كما تشاء ، ملتوية ومُتعرِّجة لأن الماء يشقُّ مجراه في الأماكن السهلة ، فإنْ صادفته عقبة بسيطة ينحرف هنا أو هناك ، ليكمل مساره ، وانظر إلى التواء النيل مثلاً عند قنا . إذن : الماء عَذْبٌ أو مالح يسير على هواه ، وليست المسألة ميكانيكا ، وليست منتظمة كالتي يشقُّها الإنسان ، فتأتي مستقيمة . ونلحظ هذه الظاهرة مثلاً حينما يقضي الإنسان حاجته في الخلاء ، فينزل البول يشقّ له مجرىً في المكان الذي لا يعوقه ، فإنْ صادفته حصاة مثلاً انحرف عنها كأنه يختار مساره على هواه . والبحر يقال عادة للمالح وللعذب على سبيل التغليب ، كما نقول الشمسان للشمس والقمر . ومرْج البحرين آية كونية تدل على قدرة الله ، فالماء مع ما عُرف عنه من خاصية الاستطراق - يعني : يسير إلى المناطق المنخفضة ، يسير المالح والعذب معاً دون أن يختلط أحدهما بالآخر ، ولو اختلطا لَفَسدا جميعاً لأن العَذْب إنْ خالطه المالح أصبح غيْرَ صالح للشرب ، وإنْ خالط المالح العذب فسد المالح ، وقد خلقه الله على درجة معينة من الملوحة بحيث تُصلحه فلا يفسد ، وتحفظه أن يكون آسناً . فالماء العذب حين تحصره في مكان يأسن ويتغير ، أمّا البحر فقد أعدَّه الله ليكون مخزن الماء في الكون ومصدر البَخْر الذي تتكون منه الأنهار لذلك حفظه ، وجعل بينه وبين الماء العذب تعايشاً سِلْمياً ، لا يبغي أحدهما على الآخر رغم تجاورهما . وقوله تعالى : { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ … } [ الفرقان : 53 ] أي : مُفرِط في العذوبة مستساغ ، ومن هذه الكلمة سَمَّوْا نهر الفرات لعذوبة مائه ، فلَيس المراد بالفرات أن الماء كماء نهر الفرات لأن الكلمة وُضِعت أولاً ، ثم سُمِّيَ بها النهر ، ذلك لأن القرآن هو كلام الله الأزلي . { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ … } [ الفرقان : 53 ] أي : شديد الملوحة ، ومع ذلك تعيش فيه الأسماك والحيوانات المائية ، وتتغذى عليه كما تتغذى على الماء العَذْب ، كما قال سبحانه : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا … } [ فاطر : 12 ] . ثم يقول سبحانه : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ] البرزخ : شيء بين شيئين ، وأصل كلمة برزخ : اليابسة التي تفصل بين ماءين ، فإن كان الماء بين يابستين فهو خليج . { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ] الحِجْر : هو المانع الذي ينمع العَذْب والمالح أنْ يختلطا ، والحِجْر نفسه محجور ، مبالغة في المنع من اختلاط الماءيْن ، كما جاء في قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] . ومثل قوله تعالى : { ظِـلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] . ثم يقول الحق سبحانه : { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْمَآءِ … } .