Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 59-59)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

البعض يظن أن خَلْق السماوات والأرض شيء سهل ، وأعظم منه خَلْق الإنسان ، لكن الحق - تبارك وتعالى - يقول : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } [ غافر : 57 ] . فالإنسان يخلقه الله ، وقد يموت بعد يوم ، أو بعد مائة عام ، وقد تصيبه في حياته الأمراض ، أمّا السماوات والأرض ، فقد خلقها الله تعالى بهندسة دقيقة ، وقوانين لا تختلف ولا تختل مع ما يمرُّ عليها من أزمنة ، وكأن الحق سبحانه يقول للإنسان : إن السماوات والأرض هذه خلْقتي وصَنْعتي ، لو تدبرتَ فيها وتأملتَها لوجدتَها أعظم من خَلْقك أنت . وقوله تعالى : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ … } [ الفرقان : 59 ] سبق أن تكلَّمنا في هذه المسألة وقلنا : إن جمهرة آيات القرآن تدل على أن الخَلْق تمَّ في مدة ستة أيام إلا سورة واحدة تُشعِر آياتها أن الخلق في ثمانية أيام ، وهي سورة فصلت : حيث يقول فيها الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [ فصلت : 9 - 12 ] . وجملة هذه ثمانية أيام ، وكل مُجْمل يخضع للتفصيل إلا تفصيل العدد فيرجع للمجمل ، كيف ؟ الحق سبحانه يتكلم هنا عن خَلْق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم تكلَّم عن خَلْق الأرض في يومين ، وجعل فيها رواسي من فوقها ، وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام ، فالأربعة الأيام هذه تكملة لخلّق الأرض فهي تكملة لليومين ، كأنه قال في تتمة أربعة أيام ، فالأرض في يومين والباقي أكمل الأربعة . كما تقول : سِرْتُ إلى طنطا في ساعة ، وإلى الأسكندرية في ساعتين أي يدخل فيهما الساعة الأولى إلى طنطا ، فاليومان من الأربعة الأيام . لكن ، كيف نُقدِّر هذا اليوم ؟ الله يخاطبنا باليوم الذي نعرفه ونعرف مدلوله ، فالمعنى : في ستة أيام من أيامكم التي تعرفونها . وإلاَّ لو كان المراد يوماً لا نعرفه نحن ، فسيكون لا معنى له لأننا لا نفهمه . ولقائل أن يقول : كيف يستغرق الخَلْق كل هذه المدة والحق - تبارك وتعالى - يخلق بكُنْ ، وكن لا تحتاج وقتاً ؟ قالوا : فَرْق بين عملية الخَلْق وما يحتاجه المخلوق في ذاته . فأنت مثلاً ، إنْ أردتَ أنْ تصنع كوباً من الزبادي تحضر اللبن مثلاً وتضع عليه خميرة الزبادي المعروفة المأخوذة من زبادي دسم سبق صُنْعه ، وتضعه في درجة حرارة معينة ، بعد هذه العملية تكون قد صنعت الزبادي فعلاً ، لكن هل يمكنك أن تأكل منه فَوْر الانتهاء من صناعته ؟ لا ، بل لا بُدَّ أن تتركه عدة ساعات لتتفاعل عناصره ، فهل تقول : أنا صنعت الزبادي في عدة ساعات مثلاً ؟ كذلك ، حين تذهب إلى الترزي لتفصيل ثَوْب مثلاً يقول لك : موعدنا بعد شهر ، فهل تستغرق خياطة الثوب شهراً ؟ لا ، إنما مدته عنده شهر . فالحق - تبارك وتعالى - يفعل ويخلق دون معالجة ، وبالتالي دون زمن لأنه سبحانه يقول للشيء : كُنْ فيكون . وقوله سبحانه : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ … } [ الفرقان : 59 ] سبق أن تكلمنا في هذه المسألة ، فاستوى تعني : صعد وارتفع وعلا وجلس ، ونحن نُنزِّه الله تعالى عن استواءٍ يشابه استواء خَلْقه . والاستواء هنا رمزية لتمام الأمر بما نعرفه في عادة الملوك في الجلوس على كرسي العرش ، حين يتم لهم الأمر ويستتبّ . و { ٱلرَّحْمَـٰنُ … } [ الفرقان : 59 ] دليل على أن مسألة الخَلْق كلها تدور في إطار الرحمانية { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] لأنه سبحانه خلق السماوات والأرض وخلقنا ، ومع ذلك لا نعرف : كيف تم هذا الخَلْق ؟ ولن نستطيع أن نقف على تفصيل هذا الخَلْق ، إلا إذا أطلعنَا الخالق عليه ، وإلاَّ فهذا أمر لم نشاهده ، فكيف نخوض فيه ، كمن يقول : إن الأرض كانت قطعةَ من الشمس ، ثم انفصلتْ عنها مع دوران الشمس … إلخ هذه الأقوال . لذلك الحق - تبارك وتعالى - يُحذِّرنا من سماع مثل هذه النظريات ، لأن مسألة الخَلْق لا تخضع للعلم التجريبي أَبداً ، فيقول سبحانه : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . إذن : سيوجد في الكون مُضلون يقولون للناس مثل هذه الأقوال في الخَلْق ويدَّعُون بها أنهم علماء يعرفون ما لا يعرفه الناس ، فاحذروهم فما شاهدوا عملية الخَلْق ، وما كانوا مساعدين لله تعالى ، فيطلعوا على تفاصيل الخَلْق . لذلك تقوم هذه الأقوال في خَلْق الإنسان وخَلْق السماء والأرض دليلاً على صِدْق هذه الآية ، فما موقف هذه الآية - إذن - إذا لم تقل هذه الأقوال ؟ ومثال ذلك الذين يحلو لهم التعصب للقرآن الكريم ضد الحديث النبوي يقول لك أحدهم : حدِّثني عن القرآن ، سبحان الله ، أتتعصّب للقرآن ضد الرسول الذي بلَّغك القرآن ، وما عرفتَ القرآن إلا من طريقه ؟ يعني الواد ربَّانيّ لا يعترف إلا بالقرآن . ونقول لمثل هذا الذي يهاجم الحديث النبوي : أنت صليتَ المغرب ثلاث ركعات ، فأين هذا من القرآن ؟ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يُوشك الرجل يتكىء على أريكته يُحدَّث بحديثي فيقول : بيني وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه ، وما كان حراماً حرَّمْناه ، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله " . لماذا ؟ لأنِّي أقول لكم من باطن قَوْل الله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ … } [ الحشر : 7 ] . بالله ، لو لم يُوجَد الآن مَنْ يقول بهذا القول ، فماذا سيكون موقف هذا الحديث ؟ وكيف لنا أن نفهمه ؟ لقد فضحهم هذا الحديث ، وأبان ما عندهم من غباء ، فقد كان بإمكانهم بعد أنْ عرفوا حديث رسول الله أنْ يُمسِكوا عن التعصب للقرآن ضد الحديث النبوي ، فيكون الحديث ساعتها غير ذي معنى لكن هيهات . نعود إلى موضوعنا ، ونحن بصدد الكلام عن خَلْق السماوات وخَلْق الأرض ، واستواء الحق - تبارك وتعالى - على العرش ، وهاتان المسألتان لا تسأل فيهما إلا الله { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] لأنه وحده الذي يعلم خبايا الأمور ، وهذه أمور لم يطلّع عليها أحد فيخبرك بها . وكلمة : سأل الإنسان لا يسأل عن شيء إلا إذا كان يجهله ، والسؤال له مراحل : فقد تجهل الشيء ولا تهتم به ، ولا تريد أن تعرفه ، فأنت واحد من ضمن الذين لا يعرفون ، وقد تجهل الشيء لكن تهتم به ، فتسأل عنه لاهتمامك به ، فمرَّة نقول : اسأل به . ومرة نقول : اسأل عنه . والمعنى : اسأل اهتماماً به ، أي : بسبب اهتمامك به اسأل عنه خبيراً ليعطيك ويخبرك بما تريد ، فهو وحده الذي يعرف خبايا الأمور ودقائقها ، وعنده خبر خَلْق السماوات وخَلْق الأرض ، ويعلم مسألة الاستواء على العرش لذلك إنْ سألتَ عن هاتين المسألتين ، فلا تسأل إلا خبيراً . والذين قالوا في قوله تعالى : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أي : ممَّنْ يعلم الكلام عن الله من أهل الكتاب نقول : لا بأسَ لأنه سيؤول إلى الله تعالى في النهاية .