Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 67-67)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الإسراف : تبديد ما تملك فيما عنه غَنَاء ، فلا نقول مسرف مثلاً للذي يأكل ليحفظ حياته لذلك يقول سيدنا عمر - رضي الله عنه - لولده عاصم : كُلْ نصف بطنك ، ولا تطرح ثوباً إلا إذا استخلقْتَه ، ولا تجعل كل رزقك في بطنك وعلى جسدك . والإسراف أن تنفق في غير حِلٍّ ، فلا سرف في حِلٍّ ، حتى إنْ أسرف الإنسان في شيء من الترف المباح ، فإنه يؤدي لنفسه بعض الكماليات ، في حين يؤدي للمجتمع أشياء ضرورية ، فالذي لا يرتدي الثوب إلا مكْوياً كان بإمكانه أن يرتديه دون كَيًّ ، فكَيُّ الثوب في حقه نوع من الترف ، لكنه ضرورة بالنسبة للمكوجي حيث يسَّر له أكل العيش . والذي يستقل سيارة أجرة وهو قادر على السير ، أو يجلس على القهوة كل يوم ليمسح حذاءه وهو قادر على أن يمسحه بنفسه ، هذه كلها ألوان من الترف بالنسبة لك ، لكنها ضرورة لغيرك ، فلا يُسمَّى هذا إسرافاً . وقوله تعالى : { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] أي : بين الإسراف والتقتير { قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] يعني : وسطاً أي : أن الإنفاق وسط بين طرفين ، وقوام الشيء : ما به يقوم ، والحياة كلها تقوم على عملية التوسُّط بين الإسراف والتقتير . وأذكر ونحن تلاميذ كانوا يُعلِّموننا نظرية الروافع ، وكيف نُوسِّط مركزاً على عصا من الخشب ، بحيث يتساوى الذراعان ، ويكونان سواء ، لا تميل إحداهما بالأخرى ، وإذا أرادتْ إحداهما أن تميل قاومتْها الأخرى ، كأنها تقول لها : نحن هنا . فإذا ما علقتَ ثِقَلاً بأحد الذراعين لزمك أن تطيل الأخرى لتقاوم هذا الثقل . ويروى أن عبد الملك بن مروان لما أراد أن يُزوِّج ابنته فاطمة من عمر بن عبد العزيز اختبره بهذا السؤال ليعرف ميزانه في الحياة : يا عمر ، ما نفقتك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، نفقتي حسنة بين سيئتين ، ثم تلا هذه الآية : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . فعلم الخليفة أن زوج ابنته يسير سَيْراً يضمن له ولزوجته مُقوّمات الحياة ، ويضمن كذلك المقومات العليا للنفس وللمجتمع . وسبق أن ذكرنا أن الإنسان الذي ينفق كل دَخْله لا يستطيع أن يرتقي بحياته وحياة أولاده لأنه أسرف في الإنفاق ، ولم يدخر شيئاً ليبني مثلاً بيتاً ، أو يشتري سيارة … الخ . ومصيبة المجتمع أعظم في حال التقتير ، فمصلحة المجتمع أنْ تُنفق ، وأن تدخر ، كما قال سبحانه : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ … } [ الإسراء : 29 ] . وهكذا جعل الله لنا ميزاناً بين الإسراف والتقتير ذلك لأن المال قِوَام الحياة ، والذي يُقتِّر يُقتِّر على نفسه وعلى الناس ، فليست له مطلوبات يشتريها ، ويشارك بها في حركة الحياة ، وينتفع بها غيره ، فهذه السلع وهذه الصناعات وهؤلاء العمال ، وأهل الحِرَف من أين يرتزقون إذن وليس هناك استهلاك ورواج لسلعهم ؟ لا شَكَّ أن التقتير يُحدِث كساداً ، ويُحدِث بطالة ، وهما من أشد الأمراض فتكاً بالمجتمع . ولو نظرتَ إلى رغيف العيش ، وهو أبسط ضروريات الحياة ، كم وراءه من عمال وصُنَّاع وزُرَّاع ومهندسين ومطاحن ومخازن ومصانع وأفران ، وهَبْ أنك أحجمت مثلاً عنه ، ماذا يحدث ؟ إذن : ربك يريدك أن تنفق شيئاً ، وتدخر شيئاً يتيح لك تحقيق ارتقاءات حياتك وطموحاتها لذلك خُتِمَتْ الآية السابقة بقوله تعالى : { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] . ملومَ النفس لما بددتَ من أموال لم ينتفع بها عيالك ، ومحسوراً حينما ترى غيرك ارتقى في حياته وأنت لم تفعل شيئاً . إذن : فالإنسان ملومٌ إنْ أسرف ، محسورٌ إنْ قتّر ، والقوام في التوسُّط بين الأمرين ، وبالحسنة بين السيئتين ، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، ولذلك قالوا : خير الأمور الوسط . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ … } .