Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 106-106)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 106 ] يريد أن يُحنِّن قلوبهم عليه بكلمة { أَخُوهُمْ … } [ الشعراء : 106 ] التي تعني أنه منهم وقريب الصِّلة بهم ، ليس أجنبياً عنهم ، فهم يعرفون أصله ونشأته . ويعلمون صفاته وأخلاقه . لذلك لما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغ الناس برسالته بادر إلى الإيمان به أقرب الناس إليه ، وهي السيدة خديجة دون أنْ تسمع منه آية واحدة ، وكذلك الصِّديق أبو بكر وغيرهما من المؤمنين الأوائل ، لماذا ؟ لأنهم بَنَوْا على تاريخه السابق ، واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرسالة ، فعلموا أن الذي لا يكذب على الناس مستحيل أن يكذب على رب الناس . والسيدة خديجة رضوان الله عليها تعتبر أول فقيهة ، وأول عالمة أصول في الإسلام ، حينما جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو ما يعاني ، ويخشى أن يكون ما يأتيه من الوحي رئياً من الجن أو توهمات تفسد عليه عقله وتفكيره ، قالت له - انظر إلى العظمة - " والله إنك لتصل الرحم ، وتَقْرى الضيف ، وتحمل الكَلَّ ، وتُعين على نوائب الدهر ، والله لا يخزيك الله أبداً " . ولما علم الصِّدِّيق بحادثة الإسراء والمعراج بادر بالتصديق ، ولم يتردد ، ولما سُئل عن ذلك قال : إننا نصدقه في الأمر يأتي من السماء فكيف لا نصدقه في هذه ، فإنْ كان قال فقد صدق . إذن : فمقياس الصدق لديه أن يقول رسول الله لذلك استحق الصِّديق هذا اللقب عن جدارة ، حتى " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول في حقه : " كنتُ أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان - يعني : في خصال الخير - فسبقتُه إلى النبوة فاتبعني ، ولو سبقني لاتبعته " . هذه كلها معانٍ نفهمها من قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ … } [ الشعراء : 106 ] . وهذا معنى قوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ … } [ التوبة : 128 ] فهذه من حكمة الله في الرسل ، وعجيب أن يقول أهل العناد من القوم : نريد ملكاً رسولاً ، وأن يقفوا من رسول الله موقف العداء ، وكان يجب عليهم على الأقل أن يُمكِّنوه من دعوته ، ويُمكِّنوا عقولهم من أنْ تفهم لا أن تدخل في الأمر على هوى سابق . فالذي يتعب الناس في استقبال الحق أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل ، والحق لا يجتمع مع الباطل ولا يضمهما محلٌّ واحد لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة ، فعليك أنْ تُخرِج من قلبك الباطل أولاً ، ثم حكِّم عقلك في الأمر ، واستفتِ قلبك فما سمح به فأدخله . وهذه نراها حتى في الماديات ، فالحيز الواحد لا يسع شيئين أبداً ، يقولون : عدم تداخل ، كما لو ملأت قارورة بالماء مثلاً ، فقبل أن يدخل الماء لا بُدَّ أنْ يخرج الهواء ، فنراه على شكل فقاعات . لذلك يقول تعالى : { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ … } [ المؤمنون : 71 ] . ولك أن تلاحظ مثلاً زجاجة الكولونيا ذات الثُّقْب الضيق إذا وضعْتها في الماء ، لا يمكن أن يدخلها الماء ، لماذا ؟ لأن ثقبها ضيق ، لا يسمح بخروج الهواء أو دخول الماء . ولأمر ما سُمِّي الهوى من الهواء ، فكما أن الهواء الذي نُحِسُّه لو أتى من ناحية واحدة لمبنى أو جبل مثلاً لانهدم إلى الناحية الأخرى ، لماذا ؟ لأن الهواء هو الذي يتولّى حِفْظ توازن هذه المباني العالية وناطحات السحاب التي نراها ، يحفظ توازنها حين يحيط بها من كل جهاتها ، فإنْ فرّغتَ الهواء من إحدى الجهات انهدم المبنى في نفس هذه الجهة . والهواء من القوى العظيمة التي يستخدمها الإنسان ويُحوِّلها إلى طاقة ، وانظر مثلاً إلى قوة تفريغ الهواء وما تُحدِثه من هزة عنيفة ، أو إلى الحاويات والشاحنات العملاقة التي تسير على الهواء في عجلاتها ، وكذلك الهوى إنْ كان في الباطل كان قوياً ومدمراً ، ومن هذا المعنى سُمِّي السقوط هويّا ، تقول : هَوَى الشيء يعني : سقط . وقوله : { أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 106 ] هذه الكلمة جاءت على لسان كل الرسل أو يقولها الرسول أوَّلَ ما يبعث ، ومعناها : اتقوا الله وأَلاَ أداة للحضِّ ، والحثِّ على الفعل . كما تقول للولد المهمل : أَلاَ تذاكر أو هَلاَّ تذاكر . وحين نحلل أسلوب الحضِّ أو الحثِّ نجد أنه يأتي على صورة التعجب من نفي الفعل ، كما تقول للولد الذي لا يصلي وتريد أن تحثَّه على الصلاة : ألا تصلي ؟ استفهام بالنفي وعندها يستحي الولد أن يقولها ، لكن حين تستفهم بالإثبات : أتصلي ؟ يقولها بفخر : نعم . إذن : معنى الحثِّ : تعجُّب من ترْك الفعل وإنكار يحمل معنى الأمر . فمعنى : { أَلاَ تَتَّقُونَ } [ الشعراء : 106 ] أُنكِر عليكم ألاَّ تكونوا متقين ، والمراد : أطلب منكم أن تكونوا متقين ، وما دُمْت قد أنكرت النفي فلا بُدَّ أنك تريد الإثبات .