Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 130-130)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والبَطْش : الأخْذُ بشدة وبعنف ، يقول تعالى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد } [ البروج : 12 ] ويقول : { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 42 ] . لأن الأَخْذ يأخذ صُوراً متعددة : تأخذه بلين وبعطف وشفقة ، أو تأخذه بعنف . ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بَطْشهم { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 130 ] . لأنك قد تأخذ عدوك بعنف ، لكن بعد ذلك يرقُّ له قلبك ، فترحم ذِلَّته لك ، فتُهوِّن عليه وترحمه ، لكن هؤلاء جبارون لا ترقّ قلوبهم . وهذه الصفات الثلاثة السابقة لقوم هود : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [ الشعراء : 128 - 130 ] . هذه الصفات تخدم صفة التعالي ، وتسعى إلى الوصول إليه وكأنهم يريدون صفة العُلُو التي تُقرِّبهم من الألوهية لأنه لا أحدَ أعلى من الحق سبحانه ، ثم يريدون أيضاً استدامة هذه الصفة واستبقاء الألوهية : { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [ الشعراء : 129 ] . وفي صفة البَطش الشديد والجبارية يريدون التفرُّد على الغير ، والقرآن يقول : { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً … } [ القصص : 83 ] . فإنْ كنتَ تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة ، فعليك أنْ تؤديها ، لا للتّعالي لأن حينئذ ستأخذ حظك من العُلُو والغَلَبة في دار الدنيا وتنتهي المسألة ، أمّا إنْ فعلتَ وفي بالك ربُّك ، وفي بالك أنْ تُيسِّر للناس مصالح الحياة ، فإنك تُرقَّي عملك وتُثمِّره ، ويظل لك أجره ، طالما وجد العمل ينتفع الناس به إلى أنْ تقوم الساعة ، وهذا أعظم تصعيد لعمل الإنسان . ولم يفعل قوم عاد شيئاً من هذا ، إنما طلبوا العُلُو في الأرض ، وبطشوا فيها جبارين ، لكن أيتركهم ربهم عز وجل يستمرون على هذه الحال ؟ إن من رحمة الله تعالى بعباده أنْ يُذكِّرهم كلما نَسُوا ، ويُوقظهم كلما غفلوا ، فيرسل لهم الرسل المتوالين لأن الناس كثيراً ما تغفل عن العهد القديم الذي أخذوه على أنفسهم : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ الأعراف : 172 - 173 ] . وقلنا : إن الحق - تبارك وتعالى - يضع المناعة في خليفته في الأرض ، ويعطيه المنهج الذي يصلحه ، لكنه قد يغفل عن هذا المنهج أو تغلبه نفسه ، فينحرف عنه ، والإنسان بطبيعته يحمل مناعةً من الحق ضد الباطل وضد الشر ، فإنْ فسدَتْ فيه هذه المناعة فعلى الآخر أن يُذكِّره ويُوقظ فيه دواعي الخير . ومن هنا كان قوله تعالى : { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 3 ] . فإنْ وجدتَ أخاك على باطل فخُذْ بيده إلى الحق . ومعنى { وَتَوَاصَوْاْ … } [ العصر : 3 ] أي : تبادلوا التوصية ، فكل منكم عُرْضة للغفلة ، وعُرْضة للانحراف عن المنهج ، فإنْ غفلتُ أنا توصيني ، وإنْ غفلتَ أنت أوصيك ، وهذه المناعة ليست في الذات الآن ، إنما في المجتمع المؤمن ، فمنْ رأى فيه اعوجاجاً قوَّمه . لكن ما الحال إنْ فسدت المناعة في الفرد وفسدَتْ في المجتمع ، فصار الناس لا يعرفون معروفاً ، ولا يُنكِرون منكراً ، كما قال تعالى عن بني إسرائيل : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ … } [ المائدة : 79 ] . وعندها لا بد أن يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد ، ومعجزة جديدة تُوقِظ الناس ، وتعيدهم إلى جادة ربهم . ومن شرف أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها ، فجعلهم الله توابين ، إنْ فعل أحدهم الذنب تاب ورجع ، وإنْ لم يرجع وتمادى رَدَّه المجتمع الإيماني وذكَّره . وهذه الصفة ملازمة لهذه الأمة إلى قيام الساعة ، كما ورد في الحديث : " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة " . لذلك لن يأتي فيها رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المناعة ملازمة لها في الذات ، وفي النفس اللوامة ، وفي المجتمع الإيماني الذي لا يُعدم فيه الخير أبداً . لذلك يقول سبحانه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ … } [ آل عمران : 110 ] . وهذه صفة تفردتْ بها هذه الأمة عن باقي الأمم لذلك يقول هود - عليه السلام - مُذكّراً لقومه ومُوقِظاً لهم : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ … } .