Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 150-151)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المسرف : هو الذي يتجاوز الحدّ ، وتجاوز الحدِّ له مراحل لأن الله تعالى أحلَّ أشياء ، وحرّم أشياء ، وجعل لكل منهما حدوداً مرسومة ، فالسَّرَف فيما شرع الله أن تتجاوز الحلال ، فتُدخل فيه الحرام . أو : يأتي الإسراف في الكَسْب فيدخل في كَسْبه الحرام . وقد يُلزم الإنسان نفسه بالحلال في الكسب ، لكن يأتي الإسراف في الإنفاق فينفق فيما حرَّمه الله . إذن : يأتي الإسراف في صور ثلاثة : إما في الأصل ، وإما في الكسب ، وإما في الإنفاق . ونلحظ أن الحق - تبارك وتعالى - حينما يكلمنا عن الحلال ، يقول سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] . أما في المحرمات فيقول سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] أي : ابتعد عنها لأنك لا تأمن الوقوع فيها ، ومَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . فلم يقل الحق سبحانه مثلاً : لا تُصَلُّوا وأنتم سكارى . إنما قال : { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ … } [ النساء : 43 ] . والمعنى : خُذِ الحلال كله ، لكن لا تتعداه إلى المحرَّم ، أما المحرَّم فاحذر مجرد الاقتراب منه لأن له دواعي ستجذبك إليه . ونقف عند قوله تعالى : { وَلاَ تُطِيعُوۤاْ أَمْرَ ٱلْمُسْرِفِينَ } [ الشعراء : 151 ] حيث لم يقل : ولا تسرفوا ، وكأن ربنا - عزّ وجلّ - يريد أن يُوقِظ غفلتنا ويُنبِّهنا ويُحذِّرنا من دعاة الباطل الذين يُزيِّنون لنا الإسراف في أمور حياتنا ، ويُهوِّنون علينا الحرام يقولون : لا بأس في هذا ، ولا مانع من هذا ، وهذا ليس حرام . ربنا يعطينا المناعة اللازمة ضد هؤلاء حتى لا ننساق لضلالالتهم . لذلك جاء في الحديث الشريف : " استفت قلبك ، واستفتِ نفسك ، وإنْ أفتوك ، وإنْ أفتوك ، وإنْ أفتوك " . وفي هذا دليل على أنه سيأتي أناس يُفتون بغير علم ، ويُزيِّنون للناس الباطل ، ويُقنعونهم به . والفتوى من الفُتوة والقوة ، ومنه قوله تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [ الأنبياء : 60 ] . وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] . كذلك الفتوى تعني : القوة في أمر الدين والتمكُّن من مسائله وقضاياه ، وإنْ كانت القوة المادية في أمر الدنيا لها حَدٌّ تنتهي عنده فإنْ القوة في أمر الدين لا تنتهي إلى حَدٍّ ، لأن الدين أمدُه واسع ، وبحره لا ساحلَ له . والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي ، لكن قوة القوى هي القوة في أمر الدين . نقول : فلان فتيٌّ يعني : قويٌّ بذاته ، وأفتاه فلان أي : أعطاه القوة ، كأنه كان ضعيفاً في حُكم من أحكام الشرع ، فذهب إلى المفتي فأفتاه يعني : أعطاه فتوة في أمر الدين . مثل قولنا : غَنيَ فلان أي : بذاته ، وأغناه أي : غيره ، كما يقول سبحانه : { وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ … } [ التوبة : 74 ] . إذن : فمهمة المفتي أن يُقوِّي عقيدتي ، لا أن يسرف لي في أمر من أمور الدين ، أو يُهوِّن عليَّ ما حرّم الله فيُجرِّئني عليه ، وعلى المفتي أن يتحرَّى الدقة في فتواه خاصة في المسائل الخلافية التي يقول البعض بحلِّها ، والبعض بحرمتها ، يقف عند هذه المسائل وينظر فيها رأي الإسلام المتمثل في الحديث الشريف : " الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن ، وبينهما أمور مُشْتبهات ، فمن ترك ما شُبِّه له - لا من فعل ما شُبِّه له يعني على الأقل نترك ما فيه شبهة - فقد استبرأ لدينه - إن كان متديناً - وعِرْضه - إن لم يكُنْ متديناً " . إذن : مَنْ لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرىء لدينه ولا لعِرْضه . ومَنْ لم يُفْتِ على هذا الأساس من العلماء فإنما يُضعِف أمر الدين لا يُقوِّيه ، وبدل أن نقول : أفتاه . نقول : أضعفه .