Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 70-70)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فأول دعوته كانت لأبيه ، وأقرب الناس إليه لا للغريب ، والدعوة التي توجه أولاً للقريب لا بُدَّ أنها دعوة حَقٍّ ودعوة خير لأن الإنسان يحب الخير أولاً لنفسه ، ثم لأقرب الناس إليه ، ولو كانت في خيريتها شَكٌّ لقصد بها الغرباء والأباعد عنه . والمراد بأبيه هو آزر الذي ورد ذكره في موضع آخر . وسؤاله لأبيه وقومه { مَا تَعْبُدُونَ } [ الشعراء : 70 ] سؤال استهجان واستنكار ، وسؤال استدلال ليظهر لهم بطلان هذه العبادة لأن العبادة أنْ يطيعَ العابدُ المعبودَ فيما أمر وفيما نهى ، فالذين يعبدون الأصنام بماذا أمرتهم وعمَّ نهتهم ؟ إذن : فهي آلهة دون منهج ، وما أسهلَ أن يعبد الإنسان مثل هذا الإله الذي لا يأمره بشيء ، ولا ينهاه عن شيء ، وكذلك هي آلهة دون جزاء ودون حساب لأنها لا تثيب مَنْ أطاعها ، ولا تعاقب مَنْ عصاها . إذن : فكلمة عباده هنا خطأ ، ومع ذلك يُسمِّيها الناس آلهة ، لماذا ؟ لأن الإله الحق له أوامر لا بُدَّ أن تُنفّذ ، وإنْ كانت شاقة على النفس ، وله نواهٍ لا بُدَّ أن تترك وإنْ كانت النفس تشتهيها ، فهي عبادة شاقة ، أما عبادة الأصنام فما أسهلها ، فليس عندها أمْر ولا نَهْي ، وليس عندها منهج يُنظِّم لهم حركة الحياة لذلك تمسَّك هؤلاء بعبادة الأصنام ، وسمَّوْها آلهة ، وهذا خبل واضح . كما أن الإنسان في مجال العبادة إذا عزَّتْ عليه أسباب الحياة وأعْيَتْه الحيل ، أو خرجت عن طاقته ، عندها يجد له رباً يلجأ إليه ، ويستعين به فيقول : يا رب . فماذا عن عابد الأصنام إذا تعرَّض لمثل هذه المسائل ؟ هل يتوجه إليها بالدعاء ؟ وهَبْ أنه يدعو إنساناً مثله يمكن أنْ يسمعه أيستجيبُ له ؟ لذلك يقول سبحانه : { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } [ الشعراء : 71 - 73 ] . إذن : فعبادة غير الله حُمْق وغباء . لكن هذا البحث من إبراهيم ، وهذا الجدل مع أبيه وقومه ، أكان بعد الرسالة أم قبلها ؟ قالوا : إن إبراهيم - عليه السلام - كان ناضجاً مُتفتِّحاً منذ صِغَره ، وكان مُنكراً لهذه العبادة قبل أن يُرسَل ، لذلك قال الله عنه : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ الأنبياء : 51 ] . وكذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كارهاً للأصنام ، معترضاً على عبادتها ، يتعجب حين يرى قومه يعبدونها ، وقد رأى صلى الله عليه وسلم أحد الآلهة وقد كُسر ذراعه فاستعانوا بمَنْ يُصلح ذراع الإله ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجَّب لما يرى : العابد يصلح المعبود ؟ بعدها اعتزلهم رسول الله ، ولجأ إلى الغار يفكر في الإله الحق والمعبود الحق . فكأن أيَّ دين يأمر الله به لو تفكَّر فيه الإنسان برشد لانتهى إلى الحق بدون رسول لأن دين الله هو دين الفطرة السليمة ، فإنْ توفَّرت لدى الإنسان هذه الفطرة اهتدى بها إلى الحق . بدليل ما كان يحدث من عمر - رضي الله عنه - وكان يُحدث رسول الله بالأمر ، فتتنزل به الآيات من عند الله ، وقد وافقتْ الآيات رأيه في أكثر من موقف ، وقد أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين لنا أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يمكن أنْ ينتهيا إلى قضايا الدين دون رسول . وتستطيع أنت أنْ تعرض أيَّ قضية من قضايا الدين على العقل السليم ، وسوف تجد أنها طيبة وجميلة توافق الذَّوْق السليم والتفكير السويّ ، فالكذب مثلاً خُلُق يأباه العقل ويأباه الدين ، وكذلك الرشوة لأنك بها تأخذ ما ليس لك ، وقد يُسلَّط عليك رَاشٍ ، فيأخذ منك حقك ، كما أخذتَ أنت حقوق الناس . ولو تأمل العقل مثلاً تحريم النظر إلى المحرمات ، لوجد أن الدين قيَّد نظرك وأنت فرد ، وقيَّد من أجلك نظر الناس جميعاً ، فكما طلب منك طلب لك ، وكذلك الأمر في تحريم السرقة والقتل … إلخ . وقد سُئلْنا في إحدى الرحلات عن قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ … } [ التوبة : 33 ] ومرة يقول : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [ التوبة : 33 ] ومرة يقول : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } [ التوبة : 32 ] . يقولون : وبعد أربعة عشر قرناً ، والمسلمون في الكون أقلية ، ولم يظهر الدين على الدين كله ، فكيف - إذن - نفهم هذه الآية ؟ فقلتُ للسائل : لو فهمتَ الآية السابقة لعرفتَ الجواب : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } [ التوبة : 32 ] . فالمعنى : أن الدين سيظهر في وجود الأديان الأخرى ، وليس المراد أن هذه الأديان ستزول ، ولن يكون لها وجود ، بل هي موجودة ، لكن يظهر عليها الإسلام ظهور حجة ، بدليل ما نراه من هجمات على الإسلام وأحكامه وتشريعاته ، كما في مسألة الطلاق مثلاً ، أو مسألة تعدُّد الزوجات وغيرها . وبعد ذلك تُلجِئهم الحياة الاجتماعية إلى هذه التشريعات ، ولا يجدون غيرها لحل مشاكلهم . ولما قامت الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917 أول ما شرَّعوا منعوا الربا الذي كان جائزاً عندهم ، لقد منعوا الربا مع أنهم غير مسلمين ، لكن مصالحهم في ذلك ، فهذه وأمثالها غلبة لدين الله وظهور له على كل الأديان . وليس معنى { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ … } [ التوبة : 33 ] أن يصير الناس جميعاً مؤمنين ، لا ، إنما يظل كُلٌّ على دينه وعلى شِرْكه أو كفره ، لكن لا يجد حلاً لقضاياه إلا في الإسلام ، وهذا أوقع في ظهور الدين . ثم يقول الحق سبحانه عن قوم إبراهيم في ردِّهم على إبراهيم عليه السلام : { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً … } .