Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 82-82)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عجيب أن يصدر هذا الدعاء من إبراهيم ، وما أدراك ما إبراهيم ؟ إنه أبو الأنبياء الذي وصفه ربه بأنه أمة قانتاً لله ، ولم يكن من المشركين ، إبراهيم الذي ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن ، ومع هذا كله يقول : { أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } [ الشعراء : 82 ] . إنه أدب عَالٍ مع الله وهضم لعمله لأن الإنسان مهما قدَّم من الخير فهو دون ما يستحق الله تعالى من العبادة لذلك كان طلب المغفرة من الطمع . ويجب أن ننظر هنا : متى دعا إبراهيم ربه ومتى تضرع إليه ؟ بعد أن ذكر حيثيات الألوهية ، واعترف لله بالنعم السابقة وأقرَّ بها ، فقد خلقه من عدم ، وأمدَّه من عُدْم ، ووفّر له كل مقومات الحياة . وإقرار العبد بنعم الله عليه يقضي على كبرياء نفسه ، ويُصفِّي روحه وأجهزته ، فيصير أهلاً لمناجاة الله ، وأهلاً للدعاء ، فإن اعترفتَ لله بالنعم السابقة أجابك فيما تطلب من النعم اللاحقة ، على خلاف مَنْ لا يذكر لله نعمة ، ولا يقرّ له سبحانه بسابقة خير ، فكيف يقبل منه دعاء ؟ وبأيِّ وجه يطلب من الله المزيد ؟ إذن : لا تَدْعُ ربك إلا بعد صفاء نفس وإخلاص عبودية لذلك ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم " . ويقول سبحانه : { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } [ الأنفال : 29 ] يقول لك ربك : أنت مأمون على ما علمتَ ، عامل به ، فخُذ المزيد من هدايتي ونوري وتوفيقي ، خُذ المزيد لما عندك من رصيد إيماني وصفاء روحي ، جعلك أهلاً للمناجاة والدعاء . فإبراهيم - عليه السلام - وهو أبو الأنبياء لم يجترىء على الدعاء بشيء آتٍ إلا بعد أنْ ذكر لله النعم السابقة ، وشكره عليها ، فوافق قوله تعالى : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ … } [ إبراهيم : 7 ] . لذلك فإن أهل المعرفة يقولون : إن العبد مهما اجتهد في الدعاء ، فإنه يدعو بالخير على حسْب فهمه ومنطقه وبمقدار علمه ولو أنه ذكر النعيم الأول لله تعالى ، وأقرّ له بالفضل ، ثم ترك المسألة له تعالى يعطيه ويختار له لكان خيراً له لأن ربه عز وجل يعطيه على حَسْب قدرته تعالى وحكمته . وهذا المعنى واضح في الحديث القدسي : " مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " . فعطاء الله لا شكَّ أوسع ، واختياره لعبده أفضل من اختيار العبد لنفسه ، كما لو ذهبتَ في رحلة مثلاً وقلت لولدك : ماذا تريد أنْ أُحضر لك من البلد الفلاني ؟ فإنْ قال : أريد كذا وكذا فقد ضيّق على نفسه ، وإنْ ترك لك الاختيار جاء اختيارك له خيرا من اختياره لنفسه .