Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 75-75)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

معنى { غَآئِبَةٍ … } [ النمل : 75 ] يعني : الشيء الغائب ، ولحقتْ به التاء الدالة على المبالغة ، كما نقول في المبالغة : راوٍ وراوية ، ونسَّاب ونسَّابه ، وعالم وعلامة ، كذلك غائب وغائبة ، مبالغة في خفائها . ومِنْ هنا يرى البعض أنها زائدة ، لكن كلمة زائدة لا تليق بأسلوب القرآن الكريم وفصاحته ، ونُنزِّه كلام الله عن الحشو واللغو الذي لا معنى له ، والبعض تأدب مع القرآن فقال من هنا صلة ، لكن صلة لأي شيء ؟ إذن : لا بد أن لها معنى لكي نوضحه نقول : إذا أردتَ أنْ تنفي وجود مال معك تقول : ما عندي مال ، وهذا يعني أنه لا مالَ معك يُعتَدّ به ، ولا يمنع أن يكون معك مثلاً عدة قروش لا يقال لها مال ، فإن أردتَ نفي المال على سبيل تأصيل العموم في النفس تقول : ما عندي من مال ، يعني بداية ممَّا يُقال له مال مهما صَغُر ، فمِنْ هنا إذن ليست زائدةً ولا صلةً ، إنما هي للغاية وتأصيل العموم في النفي . فالمعنى { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 75 ] أن الله تعالى يحيط علمه أزلاً بكل شيء ، مهما كان صغيراً لا يُعتدُّ به ، واقرأ قوله تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ ٱلأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] . كما أن قدرته تعالى لا تقف عند حد العلم إنما ويسجله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ النمل : 75 ] أي في أُمِّ الكتاب الذي سجَّل الله فيه كل أحداث الكون ، فإذا ما جاءتْ الأحداث نراها مُوافِقة لما سجّله الله عنها أَزَلاً ، فمثلاً لما ذكر الحق - تبارك وتعالى - وسائل النقلِ والمواصلات في زمن نزول القرآن قال : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] . فلولا تذييل الآية بقوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] لكان فيها مأخذ على القرآن ، وإلاَّ فأين السيارة والطائرة والصاروخ في وسائل المواصلات ؟ إذن : نستطيع الآن أنْ نُدخِل كل الوسائل الحديثة تحت { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] . وسبق أن قلنا : إن من عظمة الحق - سبحانه وتعالى - ألاَّ يُعلم بشيء لا اختيار للعبد فيه ، إنما بما له فيه اختيار ويفضحه باختياره ، كما حدث في مسألة تحويل القبلة : { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا … } [ البقرة : 142 ] . فيعلنها الله تعالى صراحة ، ويُسمِّيهم سفهاء لأنهم يعادون الله ويعادون رسول الله ، وبعد هذه الخصومة وهذا التجريح قالوا فعلاً ما حكاه القرآن عنهم . ولم نَرَ منهم عاقلاً يتأمل هذه الآية ، ويقول : ما دام أن القرآن حكى عنا هذا فلن نقوله ، وفي هذه الحالة يجوز لهم أنْ يتهموا القرآن وينالوا من صِدْقه ومن مكانة رسول الله ، لكن لم يحدث وقالوا فعلاً بعد نزول الآية : { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا … } [ البقرة : 142 ] يعني : تركوا التوجه إلى بيت المقدس وتوجهوا إلى مكة ، قالوه مع ما لهم من عقل واختيار . وهذه المسألة حدثتْ أيضاً في شأن أبي لهب لما قال الله عنه : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } [ المسد : 1 - 3 ] . لأنه قالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمعهم ليبلغهم دعوة الله ، فقال له : تباً لك ألهذا جمعتنا . وأبو لهب عم رسول الله ، كحمزة والعباس ولم يكن رسول الله يدري مستقبل عمه ، فلعله يؤمن كما آمن حمزة وصار أسد رسول الله ، وكما آمن العباس بن عبد المطلب . فلما نزلت { تَبَّتْ يَدَآ … } [ المسد : 1 ] كان بإمكانه أنْ يُكذِّبها وأن يؤمن فينطق بالشهادتين ولو نفاقاً ، فله على ذلك قدرة ، وله فيه اختيار ، لكنه لم يفعل . إذن : من عظمة كلام الله ومن وجوه الإعجاز فيه أنْ يحكم حكماً على مختار كافر به ، وهو قرآن يُتْلَى علانيةً على رؤوس الأشهاد ، ومع ذلك لا يستطيع التصدِّي له ، ويبقى القرآن حُجَّة الله على كل كافر ومعاند . ولما نتأمل قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] نرى أن الحق سبحانه أنزل القرآن وتولَّى حفظه بنفسه - سبحانه وتعالى - ولم يُوكله إلى أحد ، مع أن في القرآن أشياء وأحداثاً لم توجد بعد ، فكأن الله تعالى يحفظها على نفسه ويُسجِّلها ويعلنها ، لماذا ؟ لأنها ستحدث لا محالة . فالحق سبحانه لا يخشى واقع الأشياء ألاَّ تطاوعه لأنه مالكها ، ألاَ ترى أن الإنسان يحفظ الكمبيالة التي له ، ولا يهتم بالتي عليه ؟ أما ربُّنا عز وجل فيحفظ لنا الأشياء وهي عليه سبحانه وتعالى . واقرأ إن شئت : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] فالله يُسجِّلها على نفسه ويحفظها لأنه القادر على الإنفاذ ، وفعلاً هُزِم الجمع وولَّوْا الأدبار وصدق الله .