Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 91-91)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فما دام أن الله تعالى أعطانا هذه المعلومات التي تلفتنا إلى قدرته في آياته الكونية ، وذكَّرنا بالآخرة ، وما فيها من الثواب والعقاب ، فما عليك إلا أنْ تلتزم عرفت فالزم واعلم أن مَنْ أبلغك منهج الله سيسبقك إلى الالتزام به ، فالشرع كما أمرك أمرني . { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ … } [ النمل : 91 ] فإنْ طلبتُ منكم شيئاً من التكاليف فقد طالبتُ نفسي به أولاً لأنني واثق بصدق تبليغي عن الله لذلك ألزمتُ نفسي به . والعبادة كما قلنا : طاعة العابد للمعبود فيما أمر وفيما نهى لأن ربك خلقك من عَدَم ، وأمدك من عُدْم ، ونظّم لك حركة حياتك ، فإنْ كلَّفك فاعلم أن التكليف من أجلك ولصالحك لأنه رب مُتولٍّ لتربيتك ، فإنْ تركك بلا منهج ، وبلا افعل ولا تفعل ، كانت التربية ناقصة . إذن : من تمام الربوبية أن يوجهني ربي كما نُوجِّه نحن أولادنا الصغار ونُربِّيهم ، ومن تمام الربوبية أن توجد هذه الأوامر وهذه النواهي لمصلحة المربِّي ، وما دام أن ربك قد وضعها لك فلا بُدَّ أن تطيعه . لذلك نلحظ في هذه الآية { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ … } [ النمل : 91 ] ولم يقُلْ : أُمِرت أن أطيع الله لأن الألوهية تكليف ، أمّا الربوبية فعطاء وتربية ، فالآية تُبيِّن حيثية سماعك للحكم من الله ، وهي أنه تعالى يُربِّيك بهذه الأوامر وبهذه النواهي ، وسوف تعود عليك ثمرة هذه التربية . لذلك ، الصِّديق أبو بكر حينما حدثوه عن الإسراء والمعراج لم يُمرِّر المسألة على عقله ، ولم يفكر في مدى صِدْقها ، إنما قال عن رسول الله : " إن كان قال فقد صدق " فالميزان عنده أن يقول رسول الله ، ثم يُعلِّل لذلك فيقول : إني لأُصدِّقه في الخبر يأتي من السماء ، فكيف لا أُصدِّقه في هذه . وقال تعالى : { رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ … } [ النمل : 91 ] أي : مكة وخصّها بالذكْر لأن فيها بيته { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً … } [ آل عمران : 96 ] ثم يذكر سبحانه وتعالى من صفات مكة { ٱلَّذِي حَرَّمَهَا … } [ النمل : 91 ] فهي مُحرَّمة يحرم فيها القتال ، وهذه وسيلة لحماية العالم من فساد الحروب وفساد الخلاف الذي يُفضي بكل فريق لأنْ تأخذه العزة ، فلا يجد حلاً إلا في السيف . وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطي لخَلْقه فرصة للمداراة وعُذْراً يستترون خلفه ، فلا ينساقون خلف غرورهم ، فحين تمنعهم من الحروب حُرْمة المكان في الحرم ، وحُرْمة الزمان في الأشهر الحرم - لأن كل فعل لا بُدَّ له من زمان ومكان - حين يمنعهم الشرع عن القتال فإن لأحدهم أن يقول : لم أمتنع عن ضعف . ولولا أن الله منعني لفعلْتُ وفعلْتُ ، ويستتر خلف ما شرَّع الله من منع القتال ، إلى أنْ يذوق حلاوة السلام فتلين نفسه ، وتتوق للمراجعة . ولحرمة مكة كان الرجل يلاقي فيها قاتل أبيه ، فلا يتعرَّض له احتراماً لحرمة البيت ، وقد اتسعتْ هذه الحرمة لتشمل أجناساً أخرى ، فلا يُعضد شجرها ، ولا يُصاد صَيْدها . ثم يقول تعالى : { وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ … } [ النمل : 91 ] لأن الله تعالى حين يصطفي من الملائكة رسلاً ، ومن الناس رسلاً ، ويصطفي من الأرض أمكنة ، ومن الزمان ، يريد أن يشيع الاصطفاء في كل شيء . فالحق - تبارك وتعالى - لا يُحَابي أحداً ، فحين يرسل رسولاً يُبلِّغ رسالته للناس كافة ، فيعود نفعه على الجميع ، وكذلك في تحريم المكان أو الزمان يعود نفعه على الجميع لذلك عطف على { ٱلَّذِي حَرَّمَهَا … } [ النمل : 91 ] فقال { كُلُّ شَيءٍ … } [ النمل : 91 ] فالتحريم جُعل من أجل هؤلاء . ثم يقول سبحانه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ النمل : 91 ] أي : المنفذين لمنهج الله يعني : لا أعتقد عقائد أخبر بها ولا أُنفِّذها ، وقد قرن الله تعالى بين الإيمان والعمل الصالح لأن فائدة الإيمان أنْ تعملَ به ، كما قال تعالى : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } [ العصر : 1 - 3 ] . فالله تعالى يريد أن يُعدِّي الإيمان والأحكام إلى أن تكون سلوكاً عملياً في حركة الحياة .