Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 31-31)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي موضع آخر يسأله ربه ليُؤنسه : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 17 ] وقلْنا : إن موسى - عليه السلام - أطال في هذا الموقف ليطيل مُدَّة الأُنْس بربه ، فلما أحسَّ أنه أسرف وأطال قال : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] فأطنب أولاً ليزداد أُنْسه بربه ، ثم أوجز ليظل أدبه مع ربه . أما هنا فيأتي الأمر مباشرة ليُوظِّف العصا : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ … } [ القصص : 31 ] . وقوله : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ … } [ القصص : 31 ] لأنه رأى عجيبة أخرى أعجب مما سبق فلو سلَّمنا باشتعال النار في خُضْرة الشجرة ، فكيف نُسلِّم بانقلاب العصا جاناً يسعى ويتحرك ؟ وكان من الممكن أنْ تنقلبَ العصا الجافة إلى شجرة خضراء من جنس العصا ، وتكون أيضاً معجزة ، أما أنْ تتحول إلى جنس آخر ، وتتعدَّى النباتية إلى الحيوانية والحيوانية المتحركة المخيفة ، فهذا شيء عجيب غير مألوف . وهنا كلام محذوف لأن القرآن الكريم مبنيٌّ على الإيجاز ، فالتقدير : فألقى موسى عصاه { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً … } [ القصص : 31 ] ذلك ليترك للعقل فرصة الاستنباط ، ويُحرِّك الذِّهْن لمتابعة الأحداث . والجانُّ ، قُلْنا هو فرخ الحية ، وقد صُوِّرَتْ العصا في هذه القصة بأنها : جانٌّ ، وثعبان ، وحية . وهي صورة ثلاثة للشيء الواحد ، فهي في خفَّتِها جانٌّ ، وفي طولها ثعبان ، وفي غِلَظها حية . ومعنى { وَلَّىٰ مُدْبِراً … } [ القصص : 31 ] يعني : انصرف خائفاً ، { وَلَمْ يُعَقِّبْ … } [ القصص : 31 ] لم يلتفت إلى الوراء ، فناداه ربه : { يٰمُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ … } [ القصص : 31 ] يعني : ارجع ولا تخَفْ من شيء ، ثم يعطيه القضية التي يجب أن تصاحبه في كل تحركاته في دعوته { إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } [ القصص : 31 ] فلم يقل ارجع فسوف أؤمنك في هذا الموقف إنما { إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } [ القصص : 31 ] . يعني : هي قضية مستمرة ملازمة لك لأنك في مَعيّة الله ، ومَنْ كان في معية الله لا يخاف ، وإلا لو خِفْتَ الآن ، فماذا ستفعل أمام فرعون . وهكذا يعطي الحق - سبحانه وتعالى - لموسى - عليه السلام - دُرْبة معه سبحانه ، ودُرْبة حتى يواجه فرعون وسَحرته والملأ جميعاً دون خوف ولا وَجَل ، وليكون على ثقة من نصر الله وتأييده في جولته الأخيرة أمام فرعون . وقد انتفع موسى - عليه السلام - بكل هذه المواقف ، وتعلَّم من هذه العجائب التي رآها فزادتْه ثقةً وثباتاً لذلك لما كاد فرعون أنْ يلحقَ بجنوده موسى وقومه ، وقالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] استعاد موسى عليه السلام قضية { إِنَّكَ مِنَ ٱلآمِنِينَ } [ القصص : 31 ] فقال بملء فيه : { قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] . فحيثية الثقة عند موسى - عليه السلام - هي معيّة الله له ، قالها موسى ، ويمكن أنْ تكذب في وقتها حالاً ، فهاجم البحر من أمامهم ، وفرعون من خلفهم ، لكنها ثقة مَنْ أمَّنه الله ، وجعله في معيَّته وحِفْظه . وهذا الأمن قد كفله الله تعالى لجميع أنبيائه ورسله ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] . وقال : { يٰمُوسَىٰ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ ٱلْمُرْسَلُونَ } [ النمل : 10 ] . وقد قُصَّ هذا كله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فانتفع به ووثق في نصر الله ، فلما قال له الصِّديق وهما في الغار : يا رسول الله ، لو نظر أحدهم تحت قدميْه لرآنَا ، قال صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ، ما ظنُّك باثنين ، الله ثالثهما " . وحكى القرآن قوله صلى الله عليه وسلم لصاحبه : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا … } [ التوبة : 40 ] وما دُمْنا في معيَّة مَنْ لا تدركه الأبصار ، فلن تدركنا الأبصار . ثم ينقل الحق - تبارك - وتعالى - موسى عليه السلام إلى آية أخرى تضاف إلى معجزاته : { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ … } .