Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 54-54)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الحق - سبحانه وتعالى - يريد أنْ يُعلِّمنا أن الذي يريد ديناً حقاً لا بُدَّ أن ينظر إلى دين يأتي بعده بمعجزة ، لأنه إذا كان قد آمن حين جاء عيسى بأنه جاء بعد موسى - عليه السلام - فلا يستبعد عقلاً أنْ يجيء بعد عيسى رسول ، فوجب عليه أنْ يبحث في الدين الجديد ، وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين . هذا إذا كان الدين الأول لم يتبدَّل ، فإذا كان الدين الأول قد تبدَّل ، فالمسألة واضحة لأن التبديل يُحدث فجوة عند مَنْ يريد ديناً { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ … } [ الأعراف : 157 ] . آمنوا به لأنهم وجدوا نَعْته ، ووجدوا العقائد التي لا تتغير موجودة في كتابه ، وهو أُميٌّ لم يعرف شيئاً من هذا ، فأخذوا من أميته دليلاً على صِدْقه . فقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ … } [ القصص : 54 ] أي : أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون لله ، والذين سبق وصفهم { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ … } [ القصص : 54 ] أجر لإيمانهم برسلهم ، وأجر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم . لذلك جاء في الحديث الشريف : " ثلاثة يُؤْتَوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل آمن بي ، وعبد مملوك أدى حق الله وأدى حق أوليائه ، ورجل عنده أَمَة - جارية - فأدَّبها فأحسن تأديبها ، فأعتقها بعد ذلك ، ثم تزوجها " . وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم ، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة ، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممَّنْ لم يؤمن في الإيمان الأول ، ثم تعرَّضوا للإيذاء في الإيمان الثاني ، فصبروا على الإيذاءين ، وهذه هي حيثية { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ … } [ القصص : 54 ] . وكما أن الله تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين ، كذلك يُؤتي بعض المسلمين أجرهم مرتين ، ومنهم - كما بيَّن سيدنا رسول الله : " عبد مملوك أدى حق الله ، وأدَّى حق أوليائه ، ورجل عنده أَمَةٌ … " . ولا يُحرم هذا الأجر الدين الذي باشر الإسلام ، وأتى قبله ، وهو المسيحية ، فلهم ذلك أيضاً لذلك يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ … } [ الحديد : 25 ] وأهم هذه المنافع { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ … } [ الحديد : 25 ] وذكر الحديد ، لأن منه سيصنع سلاح الحرب . إذن : أنزل الله القرآن لمهمة ، وأنزل الحديد لمهمة أخرى لذلك يقول الشاعر : @ فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْيُ أَوْ حَدٌّ مُرْهَف يُقيم ظباه أَخْدعَيْ كلِّ مائلٍ فَهَذا دَوَاءُ الدَّاء من كُلِّ عَاقِلٍ وذَاك دَوَاءُ الدَّاءِ من كُلِّ جاهلٍ @@ ولي أنا شخصياً ذكريات ومواقف مع هذه الآية { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ . . } [ القصص : 54 ] وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحيين ، وكان من بينهم رجل ذو عقل وفكر ، كان دائماً يُواسي المسلمين ، ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن ، وكانت تعلَق بذهنه بعض الآيات ، فجاءني مرة يقول : سمعت المقرىء يقرأ : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . فألسْنا من العالمين ؟ قلت له : نعم أُرسِل محمد رحمة للعالمين جميعاً ، فمَنْ آمن به نالته رحمته ، ومَنْ لم يؤمن به حُرِم منها ، ومع ذلك لو نظرتَ في القرآن نظرة إمعانٍ وتبصُّر تجد أنه رحِم غير المؤمن ، قال : كيف ؟ فقرأتُ له قوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ … } [ النساء : 105 ] ولم يقل بين المؤمنين { بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] . فمن رحمة الرسول بغير المؤمنين أنْ يُنصف المظلوم منهم ، وأنْ يردَّ عليه حقَّه ، ثم { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 106 ] لأن الله لا يحب الخوَّان الأثيم ولو كان مسلماً . ثم ذكرتُ له سبب نزول هذه الآية وهي قصة الدرع الذي أودعه اليهودي زيد بن السمين أمانة عند طعمة بن أبيرق المسلم ، وكان الدرع قد سُرِق من قتادة بن النعمان ، فلما افتقده قتادة ذهب يبحث عنه ، وكان قد وضعه في كيس من الدقيق ، فتتبع أثر الدقيق حتى ذهب إلى بيت زيد بن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته ، وأذاع أمره بين الناس ، فقصَّ اليهودي ما كان من أمر طُعْمة بن أبيرق ، وأنه أودع الدرع عنده على سبيل الأمانة لأنه يخشى عليه أنْ يُسرق من بيته . وهنا أحب المسلمون تبرئة صاحبهم لأنه حديث عهد بإسلام ، وكيف ستكون صورتهم لو شاع بين الناس أن أحدهم يسرق ، ومالوا إلى إدانة اليهودي ، وفعلاً عرضوا وجهة نظرهم هذه على رسول الله ليرى فيه حلاً يُخرجه من هذا المأزق ، مع أنهم لا يستبعدون أنْ يسرق ابن أبيرق . وجلس رسول الله يفكر في هذا الأمر ، لكن سرعان ما نزل عليه الوحي ، فيقول له : هذه المسألة لا تحتاج إلى تفكير ولا بحث : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [ النساء : 105 ] . فأدانت الآية ابن أبيرق ، ودلَّتْ على أن هذه ليست الحادثة الأولى في حقِّه ، ووصفتْه بأنه خوّان أي : كثير الخيانة وبرَّأتْ اليهودي ، وصححتْ وجهة نظر المسلمين الذين يخافون من فضيحة المسلم بالسرقة ، وغفلوا عن الأثر السيء لو قلبوا الحقائق ، وأدانوا اليهودي . فالآية وإنْ أدانت المسلم ، إلا أنها رفعتْ شأن الإسلام في نظر الجميع : المسلم واليهودي وكل من عاصر هذه القصة بل وكل من قرأ هذه الآية ، ولو انحاز رسول الله وتعصَّب للمسلم لاهتزتْ صورة الإسلام في نظر الجميع . ولو حدث هذا ماذا سيكون موقف اليهود الذين يراودهم الإسلام ، وقد أسلموا فعلاً بعد ما حدث ؟ وما أشبهَ هذه المسألة بشاهد الزور الذي يسقط أول ما يسقط من نظر صاحبه الذي شهد لصالحه ، حتى قالوا : مَنْ جعلك موضعاً للنقيصة فقد سقطت من نظره ، وإنْ أعَنْتَه على أمره ، فشاهد الزور يرتفع رأسُك على الخصم بشهادته ، وتطأ قدمُك على كرامته . وقوله تعالى : { وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ … } [ القصص : 54 ] هذه أيضاً من خصالهم أن يدفعوا السيئة بالحسنة ، فمن صفاتهم العفو والصفح كما قال تعالى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورى : 43 ] { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ القصص : 54 ] النفقة الواجبة على نفسه وعلى آله ، والنفقة الواجبة للفقراء وهي الزكاة ، ثم نفقة المروءات للمساكين وأهل الخصاصة .