Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 7-7)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عجيب أمر فرعون ، فبعد أن أمر بقتل الأولاد من بني إسرائيل يأتيه في البحر تابوت به طفل رضيع ، فلا يخطر على باله أن أهله ألقوه في البحر لينجو من فرعون ، فكيف فاتتْه هذه المسألة وهو إله ؟ لم يعرفها بألوهيته ، ولا عرفها حتى بذكائه وفِطْنته . وإذا كان الكهنة أخبروه بأن ذهاب مُلْكه على يد وليد من هؤلاء الأولاد ، وإذا كانت هذه النبوءة صحيحة فلا بُدَّ أن الولد سينجو من القتل ويكبر ، ويقضي على مُلْك فرعون ، وما دام الأمر كذلك فسوف يقتل فرعون الأولاد غير الذي سيكون ذهاب مُلْكه على يديه . وتشاء إرادة الله أنْ يتربَّى موسى في قصر فرعون ، وأنْ تأتي إليه أمه السيدة الفقيرة لتعيش معه عيشة الترف والثراء ، ويصير موسى بقدرة الله قُرَّة عَيْن للملكة ، فانظر إلى هذا التغفيل ، تغفيل عقل وطمس على بصيرة فرعون الذي ادَّعى الألوهية . وبذلك نفهم قول الله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ … } [ الأنفال : 24 ] فقلبه يُغطِّي على بصيرته ويُعمِّيها . قوله تعالى لأم موسى : { أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ … } [ القصص : 7 ] فمَنْ مِنَ النساء تقبل إنْ خافت على ولدها أنْ تُلقيه في اليم ؟ مَنْ ترضى أَنْ تُنجيه من موت مظنون إلى موت محقق ؟ وقد جعل الحق سبحانه عاطفة الأمومة تتلاشى أمام وارد الرحمن الذي أتاها ، والذي لا يؤثر فيه وارد الشيطان . ثم يهيىء الحق سبحانه كذلك امرأة فرعون ليتم هذا التدبير الإلهي لموسى فتقول { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ … } [ القصص : 9 ] . فيرد عليها فرعون : بل لك أنت وحدك ، وكأنه يستشعر ما سيحدث ، ولكن إرادة الله لا بُدَّ نافذة ولا بُدَّ أن يأخذ القدر مجراه لا يمنعه شيء لأن الله تعالى إذا أراد شيئاً فلا رادّ لإرادته . فمع ما علمه فرعون من أمر الرؤيا أو النبوءة رُبّي الوليد في بيته ، ولا يخلو الأمر أيضاً من سيطرة المرأة على الرجل في مثل هذا الموقف . لذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما قُرِئت هذه الآية قال : " والذي يُحلف به ، لو قال فرعون كما قالت امرأته - قرة عين لي ولك - لهداه الله كما هداها " إنما ردَّ الخير الذي ساقه الله إليه لذلك أسلمتْ زوجته وماتت على الإيمان . وهي التي قالت : { رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [ التحريم : 11 ] أما هو فمات على كفره شَرَّ ميتة . وسبق أنْ تكلّمنا في وحي الله لأم موسى { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ … } [ القصص : 7 ] وقلنا : إن الوحي في عموم اللغة : إعلام بطريق خفي دون أن تبحث عن الموحِي ، أو الموحَى إليه ، أو الموحَى به . أما الوَحْي الشرعي فإعلام من الله تعالى لرسوله بمنهج لخَلْقه . فالله تعالى يوحي للملائكة : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ الأنفال : 12 ] . ويُوحي إلى الرسل : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ … } [ النساء : 163 ] . ويُوحي للمؤمنين الصادقين في خدمة رسول : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي … } [ المائدة : 111 ] . يوحي إلى النحل ، بل وإلى الجماد : { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ ٱلإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 1 - 5 ] . وقد يكون الإعلام والوحي من الشيطان : { وَإِنَّ ٱلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ … } [ الأنعام : 121 ] . ويكون من الضالين : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً … } [ الأنعام : 112 ] . فالوَحْي إلى أم موسى كان وَحْياً من المرتبة الرابعة بطريق النَّفْث في الروع ، أو الإلهام ، أو برؤيا ، أو بملَك يُكلِّمها ، هذا كله يصح . وهذا الوحي من الله ، وموضوعه { أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ … } [ القصص : 7 ] وهذا أمر { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ … } [ القصص : 7 ] نهى { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] وهذه بشارة في خبرين . فهذه الآية إذن جمعتْ لأم موسى أمرين ، ونهيين ، وبشارتين في إيجاز بليغ مُعْجز . ومعنى { أَرْضِعِيهِ … } [ القصص : 7 ] يعني : مدة أمانك عليه { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ … } [ القصص : 7 ] ولم يقل من أيِّ شيء ليدلّ على أيِّ مخوف تخشاه على وليدها { فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ … } [ القصص : 7 ] ويراعي الحق سبحانه مشاعر الأم وقَلقها على ولدها ، خاصة إذا ألقتْه في البحر فيطمئنها { وَلاَ تَخَافِي … } [ القصص : 7 ] لأن الله سيُيسِّر له تربية خيراً من تربيتك في ظل بيت الغِنَى والملْك . { وَلاَ تَحْزَنِيۤ … } [ القصص : 7 ] أي : لفراقه لأن هذا الفراق سيُعوِّضك ، ويُعوِّض الدنيا كلها خيراً ، حين يقضي على هذا الطاغية ، ويأتي بمنهج الله الذي يحكم خَلْق الله في الأرض . ثم اعلمي بعد هذا أن الله رادُّه إليك ، بل وجاعله من المرسلين ، إذن : أنا الذي أحفظه ، ليس من أجلك فحسب ، إنما أيضاً لأن له مهمة عندي . يقولون : ظلت أم موسى تُرضِعه في بيتها طالما كانت آمنة عليه من أعين فرعون ، إلى أنْ جاءها أحَد العسس يفتش البيت فخافت على الولد فلفته في خرقة ودسته في فجوة بجوارها ، كانت هذه الفجوة هي الفُرْن ، ألقتْه فيه وهو مسجور دون أن تشعر - يعني من شدة خوفها عليه - حتى إذا ما انصرف العَسَس ذهبت إليه ، فإذا به سالماً لم يُصِبْه سوء . وكأن الله تعالى يريد لها أنْ تطمئن على حِفْظ الله له ، وأن وعده الحق . وقد وردت مسألة وحي الله لأم موسى في كتاب الله مرتين مما دعا السطحيين من المستشرقين إلى اتهام القرآن بالتكرار الذي لا فائدةَ منه ، وذكروا قوله تعالى : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [ طه : 38ـ39 ] . لكن فَرْق بين الوحي الأول والوحي الآخر : الوحي الأول خاص بالرضاعة في مدة الأمان ، أما الآخر فبعد أنْ خافت عليه أوحى إليها لتقذفه في اليم . وتأمل { أَنِ ٱقْذِفِيهِ … } [ طه : 39 ] والقذف إلقاء بقوة ، لا أنْ تضعه بحنان ورفق لأن عناية الله ستحفظه على أي حال { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ … } [ طه : 39 ] وهذا أمر من الله تعالى لليمِّ أن يخرج الوليد سالماً إلى الساحل لذلك لم يأت في هذا الوحي ذِكْر لعملية الرضاعة . فكأن الوحي الأول جاء تمهيداً لما سيحدث لتستعد الأم نفسياً لهذا العمل ، ثم جاء الوحي الثاني للممارسة والتنفيذ ، كما تُحدِّث جارك ، وتُحذِّره من اللصوص وتنصحه أنْ يحتاط لهذا الأمر ، فإذا ما دخل الليل حدث فعلاً ما حذّرتَه منه فَرُحْت تنادي عليه ليسرع إليهم ويضربهم . لذلك يختلف أسلوب الكلام في الوحي الأول ، فيأتي رتيباً مطمئناً : { أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] هكذا في نبرة هادئة لأن المقام مقام نصح وتمهيد ، لا مقام أحداث وتنفيذ . أما الوحي الثاني فيأتي في سرعة ، وبنبرة حادة : { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ } [ طه : 39 ] فالعَجلة في اللفظ تدلُّ على أن المقام مقام مباشرة للحدث فعلاً . وفي الأولى قال { فَأَلْقِيهِ … } [ القصص : 7 ] ، أما في الثانية فقال { فَٱقْذِفِيهِ … } [ طه : 39 ] والأم لا تقذف وليدها ، بل تضعه بحنان وشفقة ، لكن الوقت هنا ضيِّق لا يتسع لممارسة الحنان والشفقة . والأمر لليمِّ بأن يلقي التابوت بالساحل له حكمة لأن العمق موضع للحيوانات البحرية المتوحشة التي يُخاف منها ، أمَّا بالقُرْب من الساحل فلا يوجد إلا صغار الأسماك التي لا خطورة منها ، وكذلك ليكون على مَرْأى العين ، فيطمئن عليه أهله ، ويراه مَنْ ينقذه ليصل إلى البيت الذي قُدِّر له أنْ يتربّى فيه . وفعلاً ، وصل التابوت إلى الساحل ، وكان فرعون وزوجته آسية وابنته على الشاطىء ، فلما أُخرِج لهم التابوت وجدوا فيه الطفل الرضيع ، وكان موسى عليه السلام أسمر اللون ، مُجعَّد الشعر ، كبير الأنف ، يعني لم يكُنْ - عليه السلام - جميلاً تنجذب إليه الأنظار ويفرح به مَنْ يراه . لذلك يمتنُّ الله عليه بقوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي … } [ طه : 39 ] أي : ليس بذاتك أن يحبك مَنْ يراك إنما بمحبة الله ، لذلك ساعة رأته آسية أحبَّته وانشرح صدرها برؤيته ، فتمسكَّت به رغم معارضة فرعون لذلك . كما أن ابنة فرعون ، وكانت فتاة مبروصة أصابها البرص ، ورأت في الرؤيا أن شفاءها سيكون بشيء يخرج من البحر ، فتأخذ من ريقه ، وتدهن موضع البرص فيشفى ، فلما رأتْ موسى تذكرتْ رؤياها ، فأخذت من ريقه ودهنتْ جلدها ، فشُفِيت في الحال فتشبثتْ به هي أيضاً . فاجتمع لموسى محبة الزوجة ، ومحبة البنت ، وهما بالذات أصحاب الكلمة المسموعة لدى فرعون ، بحيث لا يرد لهما طلباً . وفي انصياع فرعون لرغبة زوجته وابنته وضعفه أمامهما رغم ما يعلم من أمر الطفل دليلٌ على أن الزوجة والأولاد هما نقطة الضعف عند الرجل ، ووسيلة السيطرة على شهامته وحزمه ، والضغط على مراداته . لذلك يطمئننا الحق - تبارك وتعالى - على نفسه ، فيقول سبحانه وتعالى { مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } [ الجن : 3 ] . ذلك لأن الصاحبة غالباً ما تستميل زوجها بوسيلة أو بأخرى ، أما الولد فيدعو الأب إلى الجبْن والخضوع ، والحق - تبارك وتعالى - لا يوجد لديه مراكز قوى ، تضغط عليه في أي شيء ، فهو سبحانه مُنزَّه عن كل نقص . وحكوا في دعابات أبي نواس أن أحدهم وسَّطه ليشفع له عند الخليفة هارون الرشيد ، فشفع له أبو نواس ، لكن الخليفة لم يُجِبْه إلى طلبه ، وانتظر الرجل دون جدوى ، ففكر في وساطة أخرى ، واستشفع بآخر عند زبيدة زوجة الرشيد ، فلما كلَّمته أسرع إلى إجابة الرجل ، وهنا غضب أبو نواس وعاتب صاحبه الرشيد ، لكنه لم يهتم به ، فقال له اسمع إذن : @ ليسَ الشَّفِيعُ الذِي يأتِيكَ مُؤتزراً مثْلَ الشَّفِيع الذِي يأتِيكَ عُرْيانا @@ ولهذه العناية الإلهية بموسى عليه السلام نلحظ أنه لما قال له ربه { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } [ طه : 24 ] خاف موسى من هذه المهمة ، وكان اسم فرعون في هذا الوقت يُلقي الرعب في النفوس ، حتى أن موسى وهارون قالا { رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } [ طه : 45 ] . لذلك طلب موسى من ربه ما يُعينه على القيام بمهمته : { قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي * وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } [ طه : 25 - 37 ] . أي : أوتيت كل مسئولك ومطلوبك . ثم يقول الحق سبحانه : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ … } .