Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 14-14)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول العلماء : إن نوحاً - عليه السلام - هو أول رسل الله إلى البشر ، أما مَنْ سبقه مثل آدم وإدريس عليهما السلام ، فكانوا أنبياء أوحى الله إليهم بشرع يعملون به ، فيكونون نموذجاً إيمانياً ، وقدوة سلوك طيب ، يُقلِّدهم مَنْ رآهم ، لكن لا يُعَدُّ كافراً مَنْ لم يقتَدِ بهم ، أما إن اقتدى بهم ثم نكث عن سبيلهم فهو كافر . لذلك نُفرِّق بين النبي والرسول ، بأن النبي أُوحي إليه بشرع يعمل به ولم يُؤْمر بتبليغه ، أما الرسول فقد أُوحي إليه بشرع وأُمرِ بتبليغه فكلٌّ منهما مرسل ، لذلك يقول تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ … } [ الحج : 52 ] . إذن : فالنبي أيضاً مُرسَل ، لكنه مُرسَل لذاته . لكن لماذا كان هذا قبل نوح بالذات ؟ قالوا : لأن الرقعة الإنسانية كانت ضيقة قبل نوح ، وكان الناس حديثي عهد ، لم تنتشر بينهم الانحرافات ، فلما اتسعت الرقعة ، وتداخلت أمور الحياة احتاجت الخليقة لأنْ يرسل الله إليهم الرسل . والحق سبحانه يأتي بهذه اللقطة الموجزة من قصة نوح - عليه السلام - مع أن له سورة مفردة ، وله لقطات كثيرة منثورة في الكتاب العزيز ، لكن هذه اللقطة تأتي لنا بالبداية والنهاية فقط وكأنها برقية تلغرافية في مسألة نوح : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ … } [ العنكبوت : 14 ] . إذن : الرسول جاء من القوم ، وهذا يعني أنهم يعرفونه قبل أن يكون رسولاً ، ويُجرِّبون سلوكه وحركته في الحياة ، ويعرفون خُلقه ، ويعرفون كل تصرفاته ، فليس الرسول بعيداً عنهم أو مجهولاً لهم . لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جهر بالدعوة آمن به الذين يعرفونه عن قُرْب دون أنْ يسألوه عن معجزة تؤيده ، بل بمجرد أنْ قال أنا رسول الله آمنوا به وصدَّقوه واتبعوه . فسيدنا أبو بكر ، هل سمع من رسول الله قبل أن يؤمن به ؟ لا ، إنما بمجرد أن قالوا له : إن صاحبك تنبأ قال : آمنت به ، لماذا ؟ لأنه يعرف له سوابق يبني عليها إيمانه بصاحبه ، فما كان محمد ليكون صاحب خُلق عظيم مع الناس ، ثم يكذب على الله . إذن : ففي كَوْن الرسول من قومه إيناسٌ للخَلْق لذلك لما قالوا : لا نؤمن إلا إذا جاءنا الرسول ملكاً ردَّ عليهم : أأنتم ملائكة حتى ينزل عليكم مَلَك ؟ { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . ولو فُرض أننا أرسلناه مَلَكاً أهم يروْن الملائكة ؟ لا يروْنَها ، فكيف إذن يُبلِّغ الملَك الناس ؟ لا بُدَّ أنْ يأتيهم في صورة بشر ، ولو أتاهم في صورة بشر لقالوا نريد ملَكاً . وقوله عز وجل : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً … } [ العنكبوت : 14 ] هذا العدد من الممكن أن يؤدى لمعانٍ كثيرة ، فلم يقُلْ : فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً . وفي الأعداد في القرآن أسرار كثيرة ، واقرأ مثلاً : { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً … } [ الأعراف : 142 ] . وفي آية سورة البقرة قال الحق سبحانه : { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً … } [ البقرة : 51 ] . ففي سورة البقرة إجمال ، وفي آية الأعراف تفصيل . والحكمة في هذا أن موسى عليه السلام ما إن ذهب لميقات ربه حتى عبد قومه العجل في مدة الثلاثين ليلة . ولم يشأ الله أن يترك موسى ليعود لقومه بعد الثلاثين ليلة ، بل أتمها بعشر أُخر ، حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه ، فكأن العشْرَ زادتْ على الثلاثين ليلة ، ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة . فالمسألة في منتهى الدقة ، ولو لم يأْتِ بالاستثناء في قوله : { إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً … } [ العنكبوت : 14 ] فربما يظن السامع أن المسألة تقريبية ، لكن التقريب في عَدِّ البشر ، أما في حساب الحق سبحانه فهو منتهى الدقة ، كما لو سُئلت مثلاً عن الساعة ، فتقول : الساعة العاشرة إلا دقيقة ونصفاً ، يعني : منتهى ما في استطاعتك من حساب الوقت . فإن قلتَ : فلماذا هذه اللقطة السريعة من قصة نوح عليه السلام ؟ نقول : هي لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن قومه وقفوا منه موقف العداء والمكابرة والتكذيب ، وآذوْا أصحابه ، وضيَّقوا الخِنَاق على دعوته ، وقد طالتْ هذه المسألة حتى أخذت ثلاث عشرة سنة من عمر الدعوة ، فسلاَّه ربه : اصبر يا محمد ، فقد صبر زميل لك في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً ، يعني مدة المشقة التي تحملتها ما زالت بسيطة هيِّنة ، وقد تحمَّل أولو العزم من الرسل أكثر من ذلك . ونلحظ هنا { أَلْفَ سَنَةٍ … } [ العنكبوت : 14 ] ثم استثنى منها { إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً … } [ العنكبوت : 14 ] ولم يقُلْ خمسين سنة ، فاستثنى الأعوام من السنين ، ليدلَّك على أن السنة تعني أيَّ عام ، ويُرفَع الخلاف لأن البعض يقول : إن السنة هي التي تبدأ من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة ، في حين أن السنة ليس من الضروري أنْ تبدأ بالمحرم وتنتهي بذي الحجة ، إنما تبدأ في أي وقت وتنتهي في مثله بعد عام كامل . فحين نقول : فلان عمره مثلاً عشرون سنة ، أي : من يوم مولده إلى مثله عشرين مرة ، وكذلك العام . إذن : السنة والعام والحجة ، كلها سواء أردتَ الحساب بالسنة الشمسية ، أو القمرية ، أو غيرها كما تحب . ومعلوم أن التوقيتات عندنا توقيتات هلالية بالشهر العربي لأن الشمس لا يُعرف من حركتها إلا اليوم ، إنما لا نعرف منها الشهر ، الشهر نعرفه بحركة القمر حين يُولَد الهلال ، وبالشهر نحسب السنة التي هي أثنا عشر شهراً قمرياً وتزيد أحد عشر يوماً في السنة الشمسية . وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يُعْلمنا أن السنة هي العام ، لا فَرْق بينهما ، ولا داعي للجاج في هذه المسألة . ثم يذكر سبحانه نهاية هؤلاء القوم الذين كذّبوا : { فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ العنكبوت : 14 ] فالعلة في أخذهم ، لا لأنهم أعداء ، بل لأنهم ظالمون لأنفسهم بالكفر ، وهكذا تنتهي القصة أو اللقطة في آية واحدة الغرض منها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ، إنْ أبطأ نَصْره على الكفار . وكلمة { فَأَخَذَهُمُ … } [ العنكبوت : 14 ] الأخْذ فيه دليل على الشدة وقوة التناول ، لكن بعنف أو بغير عنف ؟ إنْ كان الأخذ لخصْم فهو أخْذ بعنف وشدة ، وإنْ كان لغير خَصْم كان بلطف . والطوفان : أن يزيد الماء عن الحاجة الرتيبة للناس ، فبعد أنْ كان وسيلة حياة ، ومنه كل شيء حتى يصبح وسيلة موت وهلاك ، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد أنْ يلفت أنظارنا إلى المتقابلات في الخَلْق حتى لا نظنَّ أن الخَلْق يسير برتابة . فسيدنا موسى - عليه السلام - ضرب البحر بالعصا ، فتجمَّد فيه الماء حتى صار كالجبل ، وضرب بها الحجر فانبجس منه الماء . إنها طلاقة القدرة التي لا تعتمد على الأسباب ، فالمسبِّب هو الله سبحانه يفعل ما يشاء ، فليست الأشياء بأسبابها ، إنما بمراد المسبِّب فيها لذلك يقول أحمد شوقي في قصيدة النيل : @ مِنْ أيِّ عَهْدٍ في القُرَى تتدفقُ وبأيِّ كفٍّ فِي المدائن تُغْدِقُ ومِنَ السماءِ نزلْتَ أم على الجِنَان جداولاً تترقرقُ @@ إلى أنْ يقول : @ الماء تَسْكُبه فَيْصبح عَسْجَداً والأرضُ تُغرِقُها فيحيَا المغْرَقُ @@ والمأخوذ هنا هم المكذِّبون لنوح - عليه السلام - الذين ظلموا أنفسهم لما كذَّبوا رسولهم ، ولم يستمعوا للهدى ، ثم يُنجِّي الله نوحاً - عليه السلام - بالسفينة التي قال الله عنها في سورة هود : { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا … } [ هود : 41 ] . وقد أمره الله بصناعة السفينة : { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [ هود : 37 ] فكان نوح - عليه السلام - على علم بعاقبة المكذِّبين الظالمين من قومه ، واحتفظ بها في نفسه ، وهو يصنع السفينة كما أمره ربه . لكن ، أكانت السفينة شيئاً معروفاً لهؤلاء القوم ، ولها مثال سابق لديهم ؟ لا ، لم يكونوا يعرفون السفن ، بدليل أنهم تعجَّبوا من فعْل نوح ، وسخروا منه وهو يصنعها { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ … } [ هود : 38 ] فكان يردُّ عليهم في نفسه : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [ هود : 38 ] فهو يعلم عاقبتهم وما يُبيِّته الله لهم . والحق سبحانه يعطينا هذه اللقطة من قصة نوح - عليه السلام - لكي نجول في كل اللقطات ، ونستحضر مواطن العبرة فيها ، وفي قصة نوح مسائل كثيرة نستفيدها ، فقد كان القوم يعبدون الأصنام : وداً ، وسواعاً ، ويغوث ، ويعوق ، ونسراً ، ومنها نعلم أن ودادة الأنبياء ودادة قيم ومنهج ، وودادة أعمال واقتداء ، وأن أنسابهم أنساب تقوى وورع . فنبوّة نوح لم تمنع ولده الضالّ من الغرق ، حتى بعد أنْ دعا الله : { رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ … } [ هود : 45 ] فيعطيه الله الحكم في هذه المسألة ، ويُصحِّح له : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ … } [ هود : 46 ] . وليس معنى ذلك أن أمه أتتْ به من الحرام والعياذ بالله لأن الله تعالى ما كان ليُدلِّس على نبي من أنبيائه ، إنما هي كانت من الخائنين ، وخيانتها أنها كانت تفشي أسراره لخصومه ، وتخبرهم خبره لذلك يقول تعالى عنها في سورة التحريم : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ … } [ التحريم : 10 ] . ويُبيِّن الحق سبحانه العلة في قوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ … } [ هود : 46 ] بقوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ … } [ هود : 46 ] حتى لا تذهب بنا الظنون في زوجة نبي الله ، فالعلة أنه عمل غير صالح ، وبنوة الأنبياء بُنوَّة عمل ، لا بُنوَّة نَسَب . ثم يقول الحق سبحانه : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ … } .