Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 27-27)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وجاء وقت الجزاء لينال إبراهيم - عليه السلام - من ربه جزاء صبره على الابتلاء ، وثباته على الإيمان ، ألم يقُلْ لجبريل لما جاءه يعرض عليه المساعدة وهو في طريقه إلى النار : يا إبراهيم ، ألك حاجة ؟ فيقول إبراهيم : أما إليك فلا . لذلك يجازيه ربه ، ويخرق له النواميس ، ويواليه بالنعم والآلاء ، حتى مدحه سبحانه بقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ … } [ النحل : 120 ] . وكان عليه السلام رجلاً خاملاً في القوم ، بدليل قولهم عنه لما حَطّم أصنامهم : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [ الأنبياء : 60 ] فهو غير مشهور بينهم ، مُهْمَل الذكر ، لا يعرفه أحد ، فلما والى الله والاه وقال : لأجعلنك خليل الله وشيخ المرسلين ولأُجرينَّ ذِكْرك ، بعد أنْ كنت مغموراً على كل لسان ، وها نحن نذكره عليه السلام في التشهد في كل صلاة . واقرأ قول إبراهيم في دعائه لربه ليؤكد هذا المعنى : { وَٱجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي ٱلآخِرِينَ } [ الشعراء : 84 ] وكأنه يقول : يا رب إن قومي يستقلونني ، فاجعل لي ذِكْراً عندك . ومعلوم أن للتناسل والتكاثر نواميسَ ، فلما أنْ أنجبت السيدة هاجر إسماعيل - عليه السلام - غضبت الحرة سارة : كيف تنجب هاجر وهي الأَمَة وتتميز عليها ، لكن كيف السبيل إلى الإنجاب وسِنُّها تسعون سنة ، وسِنّ إبراهيم حينئذٍ مائة ؟ قانون الطبيعة ونواميس الخَلْق تقول لا إنجاب في هذه السن ، لكن سأخرق لك القانون ، وأجعلك تُنجب هبة من عندي { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ … } [ العنكبوت : 27 ] ثم { وَيَعْقُوبَ … } [ العنكبوت : 27 ] . وفي آية أخرى قال : { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً … } [ الأنبياء : 72 ] . أي : زيادة ، لأنه صبر على ذَبْح إسماعيل ، فقال له ربه : ارفع يدك فقد أديتَ ما عليك ، ونجحت في الامتحان ، فسوف أفديه لك ، بل وأهبك أخاً له ، وسأعطيك من ذريته يعقوب . وسأجعلهم فَضْلاً عن ذلك رسلاً { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ … } [ العنكبوت : 27 ] لذلك حين نستقرىء موكب الأنبياء نجد جمهرتهم من ذرية إبراهيم عليه السلام كل من جاء بعده من ذريته . والذرية المذكورة هنا يُرَاد بها إسحاق ويعقوب ، وهما المُوهبَان من سارة ، أمّا إسماعيل فجاء بالقانون العام الطبيعي الذي يشترك فيه إبراهيم وغيره . وكأن الحق - سبحانه وتعالى - في هذه المسألة يُدلِّل على طلاقة القدرة بأسباب تظهر فيها قدرة المسبِّب ، فيقول لإبراهيم : إن كان قومك قد كفروا بك ولم يؤمنوا ، فسأهبُكَ ذرية ليست مؤمنة مهدية فحسب ، إنما هادية للناس جميعاً . وإذا كانت ذرية إسحاق ويعقوب قد أخذتْ أربعة آلاف سنة من موكب النبوات ، فقد جاء من ذرية إسماعيل خاتم الأنبياء وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم ، وستظل رسالته باقية خالدة إلى يوم القيامة ، فالرسل من ذرية إسحاق كانوا متفرقين في الأمم ، ولهم أزمنة محددة ، أما رسالة محمد فعامة للزمان وللمكان ، لا معقِّبَ له برسول بعده إلى يوم القيامة . وقوله تعالى : { وَٱلْكِتَابَ … } [ العنكبوت : 27 ] أي : الكتب التي نزلتْ على الأنبياء من ذريته ، وهي : القرآن والإنجيل والتوراة والزبور . ثم يقول سبحانه : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا … } [ العنكبوت : 27 ] قالوا : إنه كان خامل الذّكْر فنبغ شأنه وعلا ذكْره ، وكان فقيراً ، فأغناه الله حتى حدَّث المحدِّثون عنه في السِّيَر أنه كان يملك من الماشية ما يسأم الإنسان أنْ يَعدَّها ، وكان له من كلاب الحراسة اثنا عشر كلباً … إلخ وهذا أجره في الدنيا فقط . { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ العنكبوت : 27 ] يعني : لن نقول له أذهبت طيباتك في حياتك الدنيا ، بل هو في الآخرة من الصالحين ، وهذا مُتمنَّى الأنبياء . إذن : فأجْره في الدنيا لم يُنقص من أجره في الآخرة . لكن ، لماذا وصف الله نبيه إبراهيم في الآخرة بأنه من الصالحين ؟ قالوا : لأن إبراهيم أُثِر عنه ثلاث كلمات يسميها المتصيِّدون للأخطاء ، ثلاث كذبات أو ذنوب : الأولى قوله لملك مصر لما سأله عن سارة قال : أختي ، والثانية لما قال لقومه حينما دَعَوْه للخروج معهم لعيدهم : إني سقيم . والثالثة قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا … } [ الأنبياء : 63 ] أي : عندما حطَّم الأصنام . ويقول هؤلاء المتصيدون : إنها أقوال منافية لعصمة الأنبياء . لكن ما قولكم إنْ كان صاحب الأمر والحكم شهد له بالصلاح في الآخرة ؟ ثم إن المتأمل في هذه الأقوال يجدها من قبيل المعاريض التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " فقوله عن سارة : إنها أختي ، هي فعلاً أخته في الإيمان ، وربما لو قال زوجتي لقتله الملك ليتزوجها هو . أما قوله { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] فهو اعتذار عن مشهد كافر لا ينبغي للمؤمن حضوره ، كما أن السُّقْم يكون للبدن ، ويكون للقلب فيحتمل أن يكون قصده سقيم القلب لما يراه من كفر القوم . وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا … } [ الأنبياء : 63 ] أراد به إظهار الحجة وإقامة الدليل على بطلان عبادة الأصنام ، فأراد أنْ يُنطقهم هم بما يريد أن يقوله ليقررهم بأنها أصنام لا تضر ولا تنفع ولا تتحرك . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ … } .