Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 26-26)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : أن قوم إبراهيم - عليه السلام - ظلوا على كفرهم ، والذي آمن به لوط - عليه السلام - وكان ابن أخيه ، وكانوا في العراق ، ثم سينتقلون بعد ذلك إلى الشام . وكلمة { فَآمَنَ لَهُ … } [ العنكبوت : 26 ] حين نتتبع كلمة آمن في القرآن الكريم نجد أنها تدور حول الأمن والطمأنينة والراحة والهدوء ، لكنها تختلف في المدلولات حسب اختلاف موقعها الإعرابي ، فهنا { فَآمَنَ لَهُ … } [ العنكبوت : 26 ] وهل يؤمن لوط لإبراهيم ؟ والإيمان كما نقول يؤمن بالله فما دام السياق { فَآمَنَ لَهُ … } [ العنكبوت : 26 ] فلا بُد أن المعنى مختلف ، ولا يقصد هنا الإيمان بالله . ومعنى آمن هنا كما في قوله تعالى عن قريش : { وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 4 ] فالفعل هنا مُتعدٍّ ، فالذي آمن الله ، آمن قريشاً من الخوف . وكذلك في قوله تعالى : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ … } [ يوسف : 64 ] ومعنى { فَآمَنَ لَهُ … } [ العنكبوت : 26 ] أي : صدقه . ومنه قوله تعالى : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] أي : بمصدِّق ، أما آمنت بالله : اعتقدت وجوده بصفات الكمال المطلق فيه سبحانه . ولوط لا يصدق بإبراهيم ، إلا إذا كان مؤمناً بإله أرسله ، فكأنه آمن بالله ثم صدَّقه فيما جاء به وقصة لوط عليه السلام لها موضع آخر فُصِّلَت فيه ، إنما جاء ذكره هنا لأنه حصيلة الصفقة الجدلية والجهادية بين إبراهيم وقومه ، فبعد أنْ دعاهم إلى الله ما آمن له إلا لوط ابن أخيه . وأذكر أن الشيخ موسى - رحمه الله عليه - وكان يُدرس لنا التفسير ، وجاءت قصة لوط عليه السلام فقلت له : لماذا ننسب رذيلة قوم لوط إليه فنقول : لوطي . وما جاء لوط إلا ليحارب هذه الرذيلة ويقضي عليها ؟ فقال الشيخ : فماذا نقول عنها إذن ؟ قلت : إن اللغة العربية واسعة الاشتقاق ، فمثلاً عند النسب إلى عبد الأشهل قالوا : أشهلي ، ولعبد العزيز قالوا : عبدزي ، ولبختنصر قالوا : بختي ، والآن نقول في النسب إلى دار العلوم دَرْعمي … إلخ فلماذا لا نتبع هذه الطريقة ؟ فنأخذ القاف المفتوحة ، والواو الساكنة من قوم ، ونأخذ الطاء من لوط ، ثم ياء النسب فنقول قوْطي ونُجنِّب نبي الله لوطاً عليه السلام أن ننسب إليه ما لا يليق أن يُنسب إليه . وقد حضرت احتفالاً لتكريم طه حسين ، فكان مما قلته في تكريمه : لك في العلم مبدأ طَحْسَني لأنه كثيراً ما نجد بين العلماء اسم طه ، واسم حسين . إذن : فقوله تعالى { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ … } [ العنكبوت : 26 ] جاءت جملة اعتراضية في قصة إبراهيم عليه السلام لأنه المحصلة النهائية لدعوة إبراهيم في قومه لذلك يعود السياق مرة أخرى إلى إبراهيم { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ … } [ العنكبوت : 26 ] أي : منصرف عن هذا المكان لأنه غير صالح لاستتباب الدعوة . ومادة هجر وما يُشتق منها تدلُّ على ترْك شيء إلى شيء آخر ، لكن هَجَرَ تعني أن سبب الهَجْر منك وبرغبتك ، إنما هاجر فيها مفاعلة مثل شارك وقاتل ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة ، إنما هاجر منها إلى المدينة . وهذا يعني أنه لم يهاجر برغبته ، إنما آذاه قومه واضطروه للخروج من بلده ، إذن : فلهم دَخْل في الهجرة ، وهم طرف ثَانٍ فيها . لذلك يقول المتنبي : @ إذَا ترحّلْتَ عَنْ قوْمٍ وقَدْ قَدَرُوا أَلاَّ تُفارِقَهُم فالرَّاحِلُونَ هُمُو @@ ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة أنْ يسمي نقلة رسول الله من مكة إلى المدينة هجرة من الثلاثي ، ولا يقول مهاجرة لأنه ساعة يهاجر يكره المكان الذي تركه ، لكن هنا قال في الفعل : هاجر . وفي الاسم قال : هجرة ولم يقل مهاجرة . وسبق أنْ ذكرنا أن هجرة المؤمنين الأولى إلى الحبشة كانت هجرة لدار أمن فحسب ، لا دار إيمان ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وجَّههم إلى الحبشة بالذات قال : " لأن فيها ملكاً لا يُظْلم عنده أحد " . وكأنه صلى الله عليه وسلم بُسِطت له خريطة الأرض كلها ، فاختار منها هذه البقعة لأنه قد تبيَّن له أنها دار أمن لمن آمن من صحابته ، أمّا الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان ، بدليل ما رأيناه من مواقف الأنصار مع المهاجرين . وهنا يقول إبراهيم عليه السلام : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ … } [ العنكبوت : 26 ] فالمكان إذن غير مقصود له ، إنما وجهة ربي هي المقصودة ، وإلا فَلَك أن تقول : كيف تهاجر إلى ربك ، وربك في كل مكان هنا وهناك ؟ فالمعنى : مهاجر امتثالاً لأمر ربي ومتوجه وجهة هو آمر بها لأنه من الممكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بأمر رئيسك مثلاً ، وقد كانت لك رغبة في الانتقال إلى هذا المكان فترحب بالموضوع لأنه حقق رغبة في نفسك ، فأنت - إذن - لا تذهب لأمر صدر لك ، إنما لرغبة عندك . لذلك جاء في الحديث : " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . فالمعنى { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ … } [ العنكبوت : 26 ] يعني : ليس الانتقال على رغبتي وحَسْب هواي ، إنما حسب الوجهة التي يُوجِّهني إليها ربي . وأذكر أنه كان لهذه المسألة واقع في تاريخنا ، وكنا جماعة من سبعين رجلاً ، وقد صدر منا أمر لا يناسب رئيسنا ، فأصدر قراراً بنقلنا جميعاً وشتَّتنا من أماكننا ، فذهبنا عند التنفيذ نستعطفه عَلَّه يرجع في قراره ، لكنه صمم عليه ، وقال : كيف أكون رئيساً ولا أستطيع إنفاذ أمري على المرؤوسين ؟ فقال له أحدنا وكان جريئاً : سنذهب إلى حيث شئتَ ، لكن اعلموا أنكم لن تذهبوا بنا إلى مكان ليس فيه الله . وكانت هذه هي كلمة الحق التي هزَّتْ الرجل ، وأعادت إليه صوابه ، فالحق له صَوْلة ، وفعلاً سارت الأمور كما نريد ، وتنازل الرئيس عن قراره . فمعنى : { مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ … } [ العنكبوت : 26 ] أن ربي هو الذي يُوجِّهني ، وهو سبحانه في كل مكان . يؤيد ذلك قوله سبحانه : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 115 ] وكأن الحق سبحانه يقول لنا : اعلموا أنني ما وجَّهتكم في صلاتكم إلى الكعبة إلا لأؤكد هذا المعنى : لأنك تتجه إليها من أي مكان كنت ، ومن أية جهة فحيثما توجهتَ فهي قبلتُك . ثم يقول : { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ العنكبوت : 26 ] اختار الخليل إبراهيم - عليه السلام - من صفات ربه { ٱلْعَزِيزُ … } [ العنكبوت : 26 ] أي : الذي لا يُغلب وهو يَغْلب . وهذه الصفة تناسب ما كان من محاولة إحراقه ، وكأنه يقول للقوم : أنا ذاهب إلى حضن مَنْ لا يُغْلب . و { ٱلْحَكِيمُ } [ العنكبوت : 26 ] أي : في تصرفاته ، فلا بُدَّ أنه سبحانه سينقلني إلى مكان يناسب دعوتي ، وأناس يستحقون هذه الدعوة بما لديهم من آذان صاغية للحق ، وقلوب وأفئدة متشوقة إليه ، وتنتظر كلمة الحق التي أعرضتم أنتم عنها . ثم يقول الحق سبحانه : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ … } .