Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 36-36)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
مدين : اسم من أسماء أولاد إبراهيم عليه السلام ، وسُمِّيت باسمه القبيلة لأنهم كانوا عادة ما يُسمُّون القوم باسم أبرز أشخاصها ، فانتقل الاسم من الشخص إلى القبيلة ، ثم إلى المكان ، بدليل قوله تعالى في موضع آخر : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ … } [ القصص : 23 ] فصارت مدين عَلَماً على البقعة ، وقالوا : إنها من الطور إلى الفرات . هذه برقية موجزة لقصة مدين وأخيهم شعيب ، وقد ذُكِرت أيضاً في قصة موسى عليه السلام . وقال { أَخَاهُمْ … } [ العنكبوت : 36 ] ليدلّك أن الله تعالى حين يصطفي للرسالة يصطفي مَنْ له وُدٌّ بالقوم ، ولهم معرفة به وبأخلاقه وسيرته ، ولهم به تجربة سابقة ، فهو عندهم مُصلْح غير مُفْسِد ، حتى إذا ما بلَّغهم عن الله صدَّقوه ، وكانت له مُقدِّمات تُيسِّر له سبيل الهداية . وقوله : { فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ العنكبوت : 36 ] كلمة { يٰقَوْمِ … } [ العنكبوت : 36 ] : القوم لا تُقال إلا للرجال لأنهم هم الذين يقومون لمهمات الأمور ، ويتحملون المشاق لذلك يقول تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ … } [ الحجرات : 11 ] فأطلق القوم ، وهم الرجال في مقابل النساء . والعبادة : قلنا : طاعة الأمر والنهي { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ العنكبوت : 36 ] أطيعوه فيما أمر ، وانتهوا عما نهى عنه ما دُمْتم قد آمنتم به إلهاً خالقاً ، فلا بُدَّ أنْ تسمعوا كلامه فيما ينصحكم به من توجيه بافعل ولا تفعل . وتعلم أنه سبحانه بصفات الكمال أوجدك وأوجد لك الأشياء ، فأنت بعبادتك له لا تضيف إليه صفة جديدة ، فهو إله قبل أن توجد أنت ، وخالق بكامل القدرة قبل أنْ توجد ، وخلق لك الكون قبل أنْ توجد . ثم بعد ذلك تعصاه وتكفر به ، فلا يحرمك خيره ، ولا يمنع عنك نعمه . إذن : فهو سبحانه يستحق منك العبادة والطاعة لأن طاعته تعود عليك أنت بالخير . لذلك سبق أنْ قُلْنَا إن كلمة العبودية كلمة مذمومة تشمئز منها النفس ، إنْ كانت عبودية للبشر لأن عبودية البشر للبشر يأخذ فيها السيد خير عبده ، لكن عبودية البشر لله تعالى يأخذ العبد خير سيده ، فالعبودية لله عزٌّ وقوة ومنَعة وللبشر ذٌلٌّ وهوان لذلك نرى كل المصلحين يحاربون العبودية للبشر ، ويدعون العبيد إلى التحرر . فأوَّل شيء أمر به شعيب قومه { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ العنكبوت : 36 ] كذلك قال إبراهيم لقومه { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ … } [ العنكبوت : 16 ] ، لكن لوطاً عليه السلام لم يأمر قومه بعبادة الله ، إنما اهتم بمسألة الفاحشة التي استشرتْ فيهم ، مع أن كل الرسل جاءوا للأمر بعبادة الله . ونقول في هذه المسألة : لم يأمر لوط قومه بعبادة الله لأنه كان من شيعة إبراهيم عليه السلام ومؤمناً بديانته ، بدليل قوله تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ … } [ العنكبوت : 26 ] فهو تابع له لذلك ينفذ التعاليم التي جاء بها إبراهيم ، فلم يأمر بالعبادة لأن إبراهيم أمر القوم بها ، لكنه تحمَّل مسألة أخرى ، وخصَّه الله بمهمة جديدة ، هي إخراج قومه من ممارسة الفاحشة التي انتشرت بينهم . وقوله تعالى : { وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ … } [ العنكبوت : 36 ] فلا بُدَّ أن اليوم الآخر لم يكُنْ في بالهم ، ولم يحسبوا له حساباً ، كأنهم سيفلتون من الله ، ولن يرجعوا إليه لذلك يُذكِّرهم بهذا اليوم ، ويحثُّهم على العمل من أجله . وكيف لا نعمل حساباً لليوم الآخر ؟ ونحن في الدنيا نعامل أنفسنا بنفس منطق اليوم الآخر ؟ فأنت مثلاً تتعب وتشقى في زراعة الأرض ، وتتحمل مشاق الحرْث والبَذْر والسقي … إلخ طوال العام ، لكن حين تجمع زرعك يوم الحصاد ، ويوم تملأ به مخازنك تنسى أيام التعب والمشقة ، وساعتها يندم الكسول الذي قعد عن العمل والسعي ، يوم الحصاد سترى أن أردب القمح الذي أخذتَه من المخزن وظننتَ أنه نقص من حسابك قد عاد إليك عشرة أرادبّ ، فأخْذُك لم يقلل إنما زاد . وكذلك اليوم الآخر نفهمه بهذا المنطق ، فنتحمل مشاقّ العبادة والطاعات في الدنيا لننال النعيم الباقي في الآخرة لأن نعيم الدنيا مهما كان ، يُنغصه عليك أمران : إما أنْ تفوته أنت بالموت ، أو يفوتك هو بالفقر . أما في الآخرة فلا يفوتك نعيمها ولا تفوته . إذن : فالأَوْلى بك أنْ تزرع للآخرة ، وأن تعمل لها ألف حساب ، فإنْ كان في العبادة مشقة ، وللإيمان تَبعات ، فانظروا إلى عِظَم الجزاء ، وإذا استحضرتَ الثواب على الطاعة هانتْ عليك مشقة الطاعة ، وإذا استفظعت العقاب على المعصية ، زهدتَ فيها ونأيْتَ عنها . إذن : الذي يجعل الإنسانَ يتمادى في المعصية أنه لا يستحضر العقاب عليها ، ويزهد في الطاعة لأنه لا يستحضر ثوابها . لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " والمعنى : لو استحضر الإيمان ما فعل ، إنما غفل عن إيمانه فوقع في المعصية . ومَن استحضر ثواب الطاعة وجد لها حلاوة في نفسه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة : " أرحنا بها يا بلال " . وقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ العنكبوت : 36 ] العثو : الفساد المستور والفساد يقال للظاهر ، فالمعنى : لا تعثَوا في الأرض عثواً ، فالمفعول المطلق بمعنى الفعل ، فقوله تعالى : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ العنكبوت : 36 ] كما نقول : اجلس قعوداً . والفاء في قوله : { فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ العنكبوت : 36 ] تدل على أنها تعطف هذا الكلام على كلام سابق ، والتقدير : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً فقال : يا قوم إني رسول الله إليكم ، ثم ذكر المطلوب منهم { يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ العنكبوت : 36 ] والجمع بين عبادة الله ورجاء اليوم الآخر يعني : لا تفصلوا العبادة عن غايتها والثواب عليها ، ولا تفصلوا المعصية عن عقابها . وقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ العنكبوت : 36 ] فلا أقول لكم : أصلحوا فلا أقلَّ من أن تتركوا الصالح على صلاحه لا تفسدوه لأن الخالق - عز وجل - أعدَّ لنا الكون على هيئة الصلاح ، وعلينا أنْ نُبقيه على صلاحه . فالنيل مثلاً هبة من هِبَات الخالق ، وشُريان للحياة يجري بالماء الزلال ، وتذكرون يوم كان الفيضان يأتي بالطمي فترى الماء مثل الطحينة تماماً ، وكذا نملأ منه الزير ، وبعد قليل يترسب الطمي آخذاً معه كل الشوائب ، ويبقى الماء صافياً زلالاً . أما الآن فقد أصابه التلوث وفسَد ماؤه بما يُلْقى فيه من مُخلَّفات ، وأصبحنا نحن أول مَنْ يعاني آثار هذا التلوث . لذلك أصبح ساكن المدن مهما توفرت له سُبُل الحضارة لا يرتاح إلا إذا خرج من المدينة إلى أحضان الطبيعة البكْر التي ظلتْ على طبيعتها كما خلقها الله ، لا ضوضاء ، ولا ملوثات ، ولا كهرباء ، ولا مدنية . ثم يقول الحق سبحانه : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ … } .