Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 37-37)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فلماذا يُكذّب الناس دعوة الخير ؟ قالوا : لا يُكذِّب دعوة الخير إلا المستفيدون من الشر لأن الخير سيقطع عليهم الطريق ، ويسحب منهم مكانتهم وسلطتهم وسيادتهم ، فكل الذين عارضوا رسل الله كانوا أكابر القوم ورؤساءهم ، وقد ألفوا السيادة والعظمة ، واعتادوا أن يكون الناس عبيداً لهم ، فكيف إذن يُفسِحون الطريق للرسل ليأخذوا منهم هذه المكانة ؟ وإلا ، فلماذا كان عبد الله بن أُبَيٍّ يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لأنه يوم وصل رسول الله إلى المدينة كانوا يُعِدُّون التاج لعبد الله بن أبي ، لينصبوه مَلِكاً على المدينة ، فلما جاءها رسول الله شغلوا بهذا الحدث الكبير ، وانصرفوا عن هذه المسألة . لكن ، ماذا قال شعيب لقومه حتى يُكذِّبوه ؟ لقد قال لهم أمرين هما : { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ … } [ العنكبوت : 36 ] ونهي واحد في { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ العنكبوت : 36 ] ومعلوم أن الأمر والنهي قوْل لا يحتمل الصِّدْق ، ولا يحتمل الكذب لأنه إنشاء وليس خبراً ، لأنه ما معنى الكذب ؟ الكذب أن تقول لشيء وقع أنه لم يقع ، أو لشيء لم يقع أنه وقع ، وهذا يسمونه خبراً . فإنْ وافق كلامك الواقعَ فهو صِدْق ، وإنْ خالف الواقع فهو كذب ، إذن : كيف نحكم على ما لم تقع له نسبة أنه صِدْق أو كذب ؟ حينما تقول مثلاً : قِفْ . هل نقول لك إنك كاذب ؟ لا ، لأن واقع الإنشاء لا يأتي إلا بعد أنْ تتكلم ، لذلك قسَّموا الكلام العربي إلى خبر وإنشاء . ولكي نبسط هذه المسألة على المتعلم نقول : المتكلم حين يتكلم يأتي بنسبة اسمها نسبة كلامية ، قبل أن يتكلم بها جالتْ في ذهنه ، فقبل أن أقول : زيد مجتهد دارتْ في ذهني هذه المسألة ، وكان في الواقع يوجد شخص اسمه زيد وهو مجتهد فعلاً . إذن : عندنا نسبة ذهنية ، ونسبة كلامية ، ونسبة واقعية ، فإنْ وُجِدت النسبة الواقعية قبل الذهنية والكلامية ، فالكلام هنا خبر يُوصَف بالصدق أو يُوصَف بالكذب . إذن : النسبة الواقعية لا تأتي نتيجة النسبة الكلامية ، إنما حين تقول : قف فتأتي النسبة الواقعية نتيجة النسبة الكلامية ، وما دامت النسبة الواقعية تأخرتْ عن الكلامية ، فلا يُوصَف القول إذن لا بصدْق ولا بكذب . ونعود إلى قول نبي الله شعيب نجده عبارة عن أمرين : { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ … } [ العنكبوت : 36 ] ونهي واحد : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ العنكبوت : 36 ] والأمر والنهي من الإنشاء الذي لا يُوصَف بالصِّدْق ولا بالكذب ، فكيف إذن يُكذِّبونه ؟ فأول إشكال : { فَكَذَّبُوهُ … } [ العنكبوت : 37 ] ومنشأ هذا الإشكال عدم وجود الملَكَة العربية التي يفهمون بها كلام الله . فالحق سبحانه قال هنا { فَكَذَّبُوهُ … } [ العنكبوت : 37 ] لأنه أمرهم بعبادة الله وهو رسول من عند الله فيأمرهم بعبادته لأن عبادته تعالى واجبة عليهم ، وما أمرهم إلا ليُؤدُّوا الواجب عليهم ، واليوم الآخر كائن لا محالة فارجوه ، والإفساد في الأرض مُحرم . إذن : فالمعنى يحمل معنى الخبر ، فالأمران هنا ، والنهي أمر واجب فكذَّبوه لعلّة الأمرين ، ولعلَّة النهي . ومعنى { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ … } [ العنكبوت : 36 ] خصُّوه سبحانه بالعبادة ، وهي الطاعة في الأمر والانتهاء عن المنهي عنه ، وهذه العبادة مطلوبة من الكل ، وهي شريعة كل الأنبياء والرسل : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ … } [ الشورى : 13 ] . إذن : فمسألة العبادة والإيمان باليوم الآخر من القضايا العامة التي لا تختلف فيها الرسالات ، أما الشرائع : افعل كذا ، ولا تفعل كذا فتختلف من نبي لآخر . ومعنى : { وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ … } [ العنكبوت : 36 ] أي : اعملوا ما يناسب رجاءكم لليوم الآخر ، وأنت لماذا تحب اليوم الآخر ، ولماذا ترجوه ؟ لا يحبه ولا يرجوه إلا مَنْ عمل عملاً صالحاً فينتظره لينال جزاء عمله وثواب سَعْيه ، وإلا لو كانت الأخرى لقال : وخافوا اليوم الآخر . إذن : الرجاء معناه : اعملوا ما يُؤهّلكم لأنْ ترجُوا اليوم الآخر ، والإنسان لا يرجو إلا النافع له . وهنا لك أنْ تسأل : هل إذا آمن الإنسان ونفَّذ أحكام ربه أمراً ونهياً ، فجزاؤهم في الآخرة رجاء يرجوه أم حَقٌّ له ؟ المفروض أن يقول للطائعين : ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ، فهي واجبة له ومن حَقِّه ، فكيف يسميه القرآن رجاءً وهو واقع ؟ قالوا : لأن جزاءنا في الجنة فَضْلٌ من الله ، لأنه سبحانه خلقنا وخلق لنا ، وأمدَّنا بالطاقات والنعم قبل أنْ يُكلِّفنا شيئاً ، فحين تعبد الله حقَّ العبادة فإنك لا تقضي ثمن جميله عليك ، ولا توفيه سبحانه ما يستحق ، فإذا أثابك في الآخرة فبمحْض فَضْلْه وكرمه . لذلك قال سبحانه : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] . كما لو أنكَ استخدمت أجيراً بمائة جنيه مثلاً في الشهر ، وقبل أن يعمل لك شيئاً أعطيته أجره فهل يطلب منك أجراً آخر ؟ فلو جئتَ في آخر الشهر وأعطيته عشرة جنيهات ، فهي فَضْل منك وتكرُّم . لذلك قال { وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ … } [ العنكبوت : 36 ] لأن الجزاء في الآخرة عند التحقيق والتعقُّل محض فَضلْ من الله لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمته " . والنهي في : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ العنكبوت : 36 ] أي : لا تفسدوا فساداً ظاهراً ، أو : لا تعملوا أعمالاً هي في ظنكم نافعة وهي ضارة ، تذكرون زمان كان القطن هو المحصول الرئيسي في مصر ومصدر الدَّخلْ ، وكانت تهدده دودة القطن فنقاومه مقاومة يدوية ، إلى أنْ خرج علينا الأمريكان بالمبيدات ، واستخدمنا مادة اسمها دي دي تي فقضتْ على الدودة في بادئ الأمر ، وظنَّ الفلاح أن هذه المشكلة قد حُلّت . لكن بعد سنوات تعودتْ الدودة على هذه المادة ، وأصبح عندها حصانة ، وكأن الدي دي تي أصبح كيفاً عندها ، وبدأنا نحن نعاني الأمرَّين من آثار هذه المبيدات في الماء ، وفي التربة ، وفي الزراعة ، وفي صحة الإنسان والحيوان . إذن : ينبغي النظر في العواقب قبل البدء في الشيء ، وأنْ يُقاسَ الضرر والنفع . كذلك الحال عندما اخترعوا السيارات ، وقالوا : إنها ستريح الناس في أسفارهم وفي حمل أمتعتهم ، وبعد ما توصل العالم إليه من ثورة في وسائل النقل لو قارنا نفعها بضررها لوجدنا أن ضررها أكبر لما تُسبِّبه من تلوث ، ولو عُدْنا إلى الوسائل البدائية ، واستخدمنا الدواب لكان أفضل . وأذكر عندما جئنا إلى مصر سنة 1936 - 1938 وجدنا في الميادين العامة مواقفَ للحمير ، مثل مواقف السيارات الآن ، وكانت هي الوسيلة الوحيدة للانتقال ، ويكفي أن رَوَثَ الحمار يُخصِّب الأرض ، أمّا عوادم السيارات فتسبب أخطر الأمراض وتؤدي للموت . فماذا بعد أنْ كذَّب قومُ شعيب نبيهم ؟ كانت سنة الله في الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم أن يُبلِّغ الرسول رسالة ربه ، لكن لا يُؤمر بحمل السيف ضد الكفار ، إنما إنْ كذّبوا بالآيات عاقبهم رب العزة سبحانه ، وتُحسم المسألة بهلاك المكذِّبين . وكوْن الحق - تبارك وتعالى - لا يأمر الناسَ بقتال الكفار هذا أمر منطقي ، والدليل رأيناه في بني إسرائيل لما طلبوا من الله أنْ يفرض عليهم القتال ، فقال : { هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ … } [ البقرة : 246 ] . ولم يُؤْمر بالقتال لنشر الدعوة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم ومَنْ آمن معه مأمونون على هذا ، ولأنه صلى الله عليه وسلم آخر الرسل والأنبياء ، فلا بُدَّ أن يستوفي كل الشروط . ونتيجة التكذيب { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ العنكبوت : 37 ] وهذا عقاب الله لأنه كان سبحانه يتولّى المكذِّب . وفي الحجر وفي هود قال الصيحة وحتى لا تتهم الآيات بالتضارب نقول : الصيحة : صوت شديد مزعج ، وهذا الصوت لا نسمعه إلا بتذبذب الهواء بشدة ، ولو كان تذبذب الهواء بلطف ما سميت صيحة . إذن : الصيحة تخلخل في الهواء بشدة لا بد أنْ ينتج عنه رجفة أي : هزة شديدة كالتي تهدم بالبيوت والعمارات نتيجة قنبلة مثلاً ، فالصيحة وُجدت أولاً ، تبعتها الرجفة ، لكن القرآن مرة يذكر الأصل فيقول الصيحة ومرة يذكر النتيجة فيقول الرجفة . { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ العنكبوت : 37 ] قال فَأصْبَحُوا ولم يقُلْ مثلاً : فصاروا ليُحدِّد وَقْت أخذهم بالصباح ، والعادة أن تكون الإغارة وقت الصباح قبل أن يستعد خَصْمك لملاقاتك ، فما يزال في أعقاب النوم خاملاً ، وإلى الآن يفضل رجال الحرب والقادة أن تبدأ الحرب في الصباح ، حيث يُفَاجأ بها العدو . وقد أصبح هذا الوقت قضية عامة ، تُعَدُّ مخالفتها من قبيل المكْر والخدعة في الحرب ، كما خالفها قادتنا في حرب أكتوبر 73 ، حيث فاجأوا عدوهم في وقت الظهيرة ، وقد تمت لهم المفاجأة ، وأخذوا عدوهم على غِرَّة لأنهم غيَّروا الوقت المعتاد ، وهو الصبح . إذن : على الإنسان ألاَّ يتخذ في أموره قضية رتيبة ، بل يُخضِع أموره لما يناسبها . ومن الطرائف : حرص الرجل على أنْ يوقظ ولده مبكراً ليذهب إلى عمله ، ويقضي مصالحه ، فقال له الوالد : ابن فلان استيقظ مبكراً ، فوجد محفظة بها مائة جنيه ، فقال الولد - وكان كسولاً لا يريد أن يستقيظ مبكراً : هذه المحفظة وقعتْ من واحد استيقظ قبله . ومعنى { جَاثِمِينَ } [ العنكبوت : 37 ] يعني : هامدين بلا حراك . ثم تنتقل بنا الآيات إلى لقطات أخرى موجزة من مواكب الرسالات ، وكأنها برقيات : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ … } .