Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 41-41)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كلمة مَثَلُ وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم مرات عدة ، ومادة الميم والثاء واللام جاءت لتعبر عن معنى يجب أنْ نعرفه ، فإذا قيل مِثْل بسكون الثاء ، فمعناها التشبيه ، لكن تشبيه مفرد بمفرد . كما في قوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } [ الشورى : 11 ] وقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا … } [ الشورى : 40 ] . أما مَثَل بالفتح ، فتعني تشبيه قصة أو متعدّد بمتعدّد ، كما في قوله تعالى : { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ … } [ الكهف : 45 ] . فالحق - سبحانه وتعالى - لا يُشبِّه شيئاً بشيء إنما يُشبه صورة متكاملة بصورة أخرى : فالحياة الدنيا في وجودها وزهرتها وزخرفها وخضرتها ومتاعها ، ثم انتهائها بعد ذلك إلى زوال مثل الماء حين ينزل من السماء فيختلط بتربة الأرض ، فينبت النبات المزهر الجميل ، والذي سرعان ما يتحول إلى حطام . لذلك اعترض بعض المتمحكين على أسلوب القرآن في قول الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ … } [ آل عمران : 59 ] . ووجه اعتراضه أن مَثَل جاءت تُشبه مفرداً بمفرد ، وهو عيسى بآدم عليهما السلام ، ونحن نقول : إنها تشبه صورة متكاملة بأخرى ونقول : هذا الاعتراض ناتج عن عدم فهم المعنى المراد من الآية ، فالحق سبحانه لا يُشبِّه عيسى بآدم كأشخاص ، إنما يُشبِّه قصة خَلْق آدم بقصة خلق عيسى ، فآدم خُلِق من غير أب ، وكذلك عيسى خُلِق من غير أب . والمعنى : إنْ كنتم قد عجبتم من أن عيسى خُلِق بدون أب ، فكان ينبغي عليكم أنْ تعجبُوا أكثر من خَلْق آدم لأنه جاء بلا أب وبلا أم ، وإذا كنتم اتخذتم عيسى إلهاً لأنه جاء بلا أب ، فالقياس إذنْ يقتضي أن تكون الفتنة في آدم لا في عيسى . والمسألة أن الله تعالى شاء أن يعلن خلْقه عن طلاقة قدرته في أنه لا يخلق بشكل مخصوص ، إنما يخلق كما يشاء سبحانه من أب وأم ، أو من دون أب ، ومن دون أم ، ويخلق من أب فقط ، أو من أم فقط . إذن : هذه المسألة لا تخضع للأسباب ، إنما لإرادة المسبِّب سبحانه ، فإذا أراد قال للشيء : كُنْ فيكون . وقد يجتمع الزوجان ، ويكتب عليهما العقم ، فلا ينجبان ، وقد يصلح الله العقيم فتلد ، ويُصلح العجوز فتنجب - والأدلة على ذلك واضحة - إذن : فطلاقة القدرة في هذه المسألة تستوعب كل الصور ، بحيث لا يحدها حَدٌّ . والحق سبحانه حين يضرب لنا الأمثال يريد بذلك أنْ يُبيِّن لنا الشيء الغامض بشيء واضح ، والمبهم بشيء بيِّن ، والمجمل بشيء مُفصَّل ، وقد جرى القرآن في ذلك على عادة العرب ، حيث استخدموا الأمثال في البيان والتوضيح . ويُحكَى أن أحدهم ، وكان صاحب سمعة طيبة وسيرة حسنة بين الناس ، فحسده آخر ، وأراد أنْ يلصق به تهمة تُشوِّه صورته ، وتذهب بمكانته بين الناس فاتهمه بالتردد على أرملة حسناء ، وقد رآه الناس فعلاً يذهب إلى بيتها ، فتخرج له امرأة فيعطيها شيئاً معه . ولما تحقق الناس من المسألة وجدوها عجوزاً لها أولاد صغار وهم فقراء ، وهذا الرجل يعطف عليهم ويفيض عليهم مما رزقه الله ، فلما عرفوا ذلك عن الرجل عظَّموه ، ورفعوا من شأنه ، وزاد في نظرهم مجداً وفضلاً . وقد أخذ الشاعر هذا المعنى وعبَّر عنه قائلاً مستخدماً المثل : @ وإذَا أَرادَ اللهُ نَشْر فَضِيلةٍ طُويَتْ أَتاحَ لَها لِسَانَ حَسُود لَوْلا اشْتِعالُ النارِ فيما جاورَتْ مَا كان يعرف طِيب عَرْفِ العُودِ @@ والعود نوع من البخور ، طيب الرائحة ، لا تنتشر رائحته إلا حين يُحرَق . ومن مشتقاتها أيضاً مَثُلَة كما في قوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ ٱلْمَثُلاَتُ … } [ الرعد : 6 ] وهي العقوبات التي حاقتْ بالأمم المكذِّبة ، حتى جعلتها عبرةً لغيرها . فإذا اشتهر المثَل انتشر على الألسنة ، وضربه الناس مثلاً كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم والجود حتى صار مضرب المثل فيه ، وقد تشتهر بيننا عبارة موجزة ، فتصير مثلاً يضرب في مناسبها كما نقول للتلميذ الذي يهمل طوال العام ، ثم يجتهد ليلة الامتحان قبل الرماء تملأ الكنائن مع الاحتفاظ بنص المثل في كل مناسبة ، وإن لم يكُنْ هناك رمي ولا كنائن . كما أن المثَل يقال كما هو دون تغيير ، سواء أكان للمفرد ، أم المثنى ، أم الجمع المذكر ، أو للمؤنث . كذلك نقول ماذا وراءك يا عصامِ بالكسر لأنها قيلت في أصل المثَل لامرأة . يقول الحق سبحانه : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً … } [ العنكبوت : 41 ] . فهذا مثل في قمة العقيدة ، ضربه الله لنا للتوضيح وللبيان ، ولتقريب المسائل إلى عقولنا ، وإياك أن تقول للمثل الذي ضربه الله لك : ماذا أراد الله بهذا ؟ لأن الله تعالى قال : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا … } [ البقرة : 26 ] . فالبعض يرى أن البعوضة هذه شيء تافه ، فكيف يجعله الله مثلاً ؟ والتحقيق أن البعوضة خَلْق من خَلْق الله ، فيها من العجائب والأسرار ما يدعوك للتأمل والنظر ، وليست شيئاً تافهاً كما تظن ، بل يكفيك فَخْراً أنْ تصل إلى سِرِّ العظمة فيها . ففي هذا المخلوق الضئيل كل مُقوِّمات الحياة والإدراك ، فهل تعرف فيها موضع العقل وموضع جهازها الدموي … إلخ وفضلاً عن الذباب والناموس وصغار المخلوقات ألا ترى الميكروبات التي لا تراها بعينك المجردة ومع ذلك يصيبك وأنت القوى بما يؤرقك وينغص عليك . إذن : لا تقُلْ لماذا يضرب الله الأمثال بهذه الأشياء لأن الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا … } [ البقرة : 26 ] ما فوقها أي : في الصِّغَر والاستدلال . أي : ما دونها صِغَراً لأن عظمة الخلق كما تكون بالشيء الأكثر ضخامة تكون كذلك بالشيء الأقلّ حجماً الأكثر دِقَّة . لو نظرتَ مثلاً إلى ساعة بج بن وهي أضخم وأشهر ساعة في العالم ، وعليها يضبط العالم الوقت لوجدتَها شيئاً ضخماً من حيث الحجم ليراها القادم من بعيد ، ويستطيع قراءتها ، فدلَّتْ على عظمة الصَّنْعة ومهارة المهندسين الذين قاموا ببنائها ، فعظمتها في ضخامتها وفخامتها ، فإذا نظرتَ إلى نفس الساعة التي جعلوها في فصِّ الخاتم لوجدتَ فيها أيضاً عظمة ومهارة جاءت من دِقَّة الصنعة في صِغَر الحجم . كذلك الراديو أول ما ظهر كان في حجم النورج ، والآن أصبح صغيراً في حجم الجيب . ومن مخلوقات الله ما دق لدرجة أنك لا تستطيع إدراكه بحواسك ، والعجيب أن يطلب الإنسان أنْ يرى الله جهرة ، وهو لا يستطيع أنْ يرى آثار خَلْقه وصَنْعته . فأنت لا ترى الجن ، ولا ترى الميكروب والجراثيم ، ولا ترى حتى روحك التي بين جنبيك والتي بها حياتُك ، لا يرى هذه الأشياء ولا يدركها بوسائل الإدراك الأخرى ، فمن عظمته تعالى أنه يدرك الأبصار ، ولا تدركه الأبصار . نعود إلى المثَل الذي ضربه الله لنا : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ … } [ العنكبوت : 41 ] أي : شركاء وشفعاء { كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ … } [ العنكبوت : 41 ] هذا المخلوق الضعيف الذي ينسج خيوطه بهذه الدقة التي نراها ، والذي نسج خيوطه على الغار في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشترك مع الحمامة في التعمية على الكفار . { ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً … } [ العنكبوت : 41 ] أي : من هذه الخيوط الواهية { وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ … } [ العنكبوت : 41 ] فخطأ العنكبوت ليس في اتخاذ البيت ، إنما في اتخاذ هذه الخيوط الواهية بيتاً له وهبّة ريح كافية للإطاحة بها ، ويشترط في البيت أن يكون حصيناً يحمي صاحبه ، وأن تكون له أبواب ونوافذ وحوائط … إلخ . أما لو اتخذها شبكة لصيد فرائسه لكان أنسب ، وكذلك الكفار اتخذوا من الأصنام آلهة ، ولو اتخذوها دلالة على قدرة الحق في الخَلْق لكان أنسب وأَجدْى . وكما أن بيت العنكبوت تهدمه هَبَّة ريح وتُقطعه وأنت مثلاً تنظف بيتك ، وربما تقتل العنكبوت نفسه ، فكذلك طبْق الأصل يفعل الله بأعمال الكافرين : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . وكذلك يضرب لهم مثلاً آخر : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ … } [ إبراهيم : 18 ] . ومعنى : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] أي : حقيقة الأشياء ، فشبكة العنكبوت لا تصلح بيتاً ، ولكن تصلح مصيدةً للحشرات ، وكذلك الأصنام والأحجار لا تنفع لأنْ تكون آلهة تُعبد ، إنما لأنْ تكون دلالة على قدرة الخالق - عز وجل - فلو فكَّروا فيها وفي أسرار خَلْقها لاهتدوا من خلالها للإيمان . فهي - إذن - دليلُ قدرة لو كانوا يعلمون ، فالجبل هذا الصخر الذي تنحتون منه أصنامكم هو أول خادم لكم ، ولمن هو أَدْنى منكم من الحيوان والنبات ، وسبق أن قلنا : إن الجماد يخدم النبات ، ويخدم الحيوان ، وهم جميعاً في خدمة الإنسان . إذن : فالجماد خادم الخدامين ، ومع ذلك جعلتموه إلهاً ، فانظروا إذن إلى هذه النقلة ، وإلى خِسَّة فكركم ، وسوء طباعكم حيث جعلتم أدنى الأشياء وأحقرها أعلى الأشياء وأشرفها - أي : في زعمكم . فكيف وقد ميَّزك الله على كل الأجناس ؟ لقد كان ينبغي منك أن تبحث عن شيء أعلى منك يناسب عبادتك له ، وساعتها لن تجد إلا الله تتخذه إلهاً . بل واقرأ إنْ شِئْتَ عن الجماد قوله تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا … } [ فصلت : 9 - 10 ] أي : في الأرض { رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [ فصلت : 10 ] . فكأن الجبال الصَّماء الراسية هي مخازن القوت للناس على مَرِّ الزمان ، فمنها تتفتت الصخور ، ويتكوَّن الطمي الذي يحمله إلينا الماء في أيام الفيضانات ، ومنها تتكون الطبقة المخصبة في السهول والوديان ، فتكون مصدر خصْب ونماء دائم ومتجدد لا ينقطع . وتذكرون أيام الفيضان وما كَان يحمله نيل مصر إلينا من خير متجدد كل عام ، وكيف أن الماء كان يأتينا أشبه ما يكون بالطحينة من كثرة ما به من الطمي . فياليت عُبَّاد الأصنام الذين نحتوا الصخور أصناماً تأملوا هذه الآيات الدالة على قدرة الخالق سبحانه بدل أن يعبدوها من دون الله . وفي موضع آخر يضرب لنا الحق سبحانه مثلاً في قمة العقيدة أيضاً فيقول سبحانه : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] . ففَرْق بين عبد مملوك لسيد واحد يتلقَّى منه وحده الأمر والنهي ، وبين عبد مملوك لعدة شركاء ، وليتهم متفقون ، لكن { شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ … } [ الزمر : 29 ] مختلفون لكلٍّ أوامر ، ولكلٍّ منهم مطالب ، فكيف إذن يُرضيهم ؟ وكيف يقوم بحقوقهم وهم يتجاذبونه ؟ فالذي يعبد الله وحده لا شريك له كالعبد لسيد واحد ، والذين يعبدون الأصنام كالعبد فيه شركاء متشاكسون . إذن : فالحق سبحانه يضرب الأمثال للناس في الحقائق ليُبيِّنها لهم بياناً واضحاً . ثم يقول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا … } .