Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 40-40)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الكلام هنا عن المكذِّبين والكافرين الذين سبق ذكرهم : قوم عاد ، وثمود ، ومدين ، وقوم لوط ، وقارون ، وفرعون ، وهامان ، فكان من المناسب أنْ يذكر الحق سبحانه تعليقاً يشمل كُلَّ هؤلاء لأنهم طائفة واحدة . فقال : { فَكُلاًّ … } [ العنكبوت : 40 ] أي : كل مَنْ سبق ذكرهم من المكذِّبين فالتنوين في { فَكُلاًّ … } [ العنكبوت : 40 ] عوض عن كل من تقدَّم ذكرهم ، كالتنوين في : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] فهو عِوَض عن جملة { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } [ الواقعة : 83 ] . وقوله سبحانه : { أَخَذْنَا بِذَنبِهِ … } [ العنكبوت : 40 ] والأخذ يناسب قوة الأخذ وقدرته لذلك يقول سبحانه عن أخْذه للمكذِّبين { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [ القمر : 42 ] فالعزيز : الذي يغلب ولا يُغلب ، والمقتدر أي : القادر على الأَخْذ ، بحيث لا يمتنع منه أحد فهو عزيز . والأخذ هنا بسبب الذنوب { بِذَنبِهِ … } [ العنكبوت : 40 ] ليس ظلماً ولا جبروتاً ولا جزافاً ، إنما جزاءً بذنوبهم وعدلاً ولذلك يأتي في تذييل الآية : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ] . ثم يُفصِّل الحق سبحانه وتعالى وسائل أَخْذه لهؤلاء المكذبين : { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً … } [ العنكبوت : 40 ] الحاصب : هو الحصَى الصِّغار ترمي لا لتجرح ، ولكن يُحْمي عليها لتكون وتلسع حين يرميهم بها الريح ، ولم يقُلْ هنا : أرسلنا عليهم ناراً مثلاً لأن النار ربما إنْ أحرقته يموت وينقطع ألمه ، لكن رَمْيهم بالحجارة المحمية تلسعهم وتُديم آلامهم ، كما نسمعهم يقولون : سأحرقه لكن على نار باردة ذلك ليطيل أمد إيلامه . ثم يقول سبحانه : { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ … } [ العنكبوت : 40 ] وهو الصوت الشديد الذي تتزلزل منه الأرض ، وهم ثمود { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ … } [ العنكبوت : 40 ] أي : قارون { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا … } [ العنكبوت : 40 ] وهم قوم نوح ، وفرعون . هذه وسائل أربعة لإهلاك المكذِّبين ، النار في الحصباء ، والهواء في الصيحة ، والتراب في الخسف ، ثم الماء في الإغراق ، ورحم الله الفخر الرازي حين قال في هذه الآية أنها جمعت العناصر التي بها وجود الإنسان والعناصر الأساسية أربعة : الماء والنار والتراب والهواء . وكانوا يقولون عنها في الماضي العناصر الأربعة ، لكن العلم فرَّق بعد ذلك بين العنصر والمادة . فالمادة تتحلَّل إلى عناصر ، أمّا العنصر فلا يتحلل لأقل منه ، فهو عبارة عن ذرات متكررة لا يأتي منها شيء آخر ، فالهواء مادة يمكن أنْ نُحلِّله إلى أكسجين و … إلخ وكذلك الماء مادة تتكوَّن من عدة عناصر وذرات إلى أن جاء مندليف ووضع جدولاً للعناصر ، وجعل لكل منها رقماً أسماها الأرقام الذرية ، فهذا العنصر مثلاً رقم واحد يعني : يتكون من ذرة واحدة ، وهذا رقم اثنين يعني يتكون من ذرتين … إلخ إلى أنْ وصل إلى رقم 93 ، لكن وجد في وسط هذه الأرقام أرقاماً ناقصة اكتشفها العلماء فيما بعد . فمثلاً ، جاءت مدام كوري ، واكتشفت عنصر الراديوم ، فوجدوا فعلاً أن رقمه من الأرقام الناقصة في جدول مندليف ، فوضعوه في موضعه ، وهذا يدل على أن الكون مخلوق بعناصر مرتبة وصلت مع التقدم العلمي الآن إلى 105 عناصر . ولما حلَّل العلماء عناصر التربة المخصبة التي نأكل منها المزروعات وجدوها 16 عنصراً ، تبدأ بالأكجسين كأعلى نسبة ، وتنتهي بالمنجنيز كأقل نسبة ، لأنها لم تصل إلى الواحد من الألف . فلما حلَّلوا عناصر جسم الإنسان وجدوا نفس هذه العناصر الستة عشرة . وكأن الحق - سبحانه وتعالى - أقام حتى الكفار ليثبتوا الدليل على صِدْقه تعالى في خَلْق الإنسان من طين ، لنعلم أن الحق سبحانه حينما يريد أنْ يُظهِر سِرَّاً من أسرار كونه يأتي به ولو على أيدي الكفار . وأول مَنْ قال بالعناصر الأربعة التي يتكون منها الكون فيلسوف اليونان أرسطو الذي توفي سنة 384 قبل الميلاد ، وعلى أساس هذه العناصر الأربع كانوا يحسبون النجم ، فمثلاً عن الزواج يحسبون نجم الزوج والزوجة حسب هذه العناصر ، فوجدوا نجم الزوج هواءً ، ونجم الزوجة ناراً ، فقالوا هيجعلوها حريقة ، وفي مرة أخرى وجدوا الزوجة مائية والزوج ترابياً فقالوا هيعملوها معجنة . ومعلوم أن الحق سبحانه لطلاقة قدرته تعالى يجعل عناصر البقاء هي نفسها عناصر الفناء ، وهو سبحانه القادر على أنْ يُنجي ويُهلك بالشيء الواحد ، كما أهلك فرعون بالماء ، وأنجى موسى - عليه السلام - بالماء . كذلك حين نتأمل هذه العناصر الأربعة نجدها عناصر تكوين الإنسان ، حيث خلقه الله من ماء وتراب فكان طيناً ، ثم جفَّ بالحرارة حتى صار صلصالاً كالفخار ، ثم هو بعد ذلك يتنفس الهواء ، فبنفس هذه العناصر التي كان منها الخَلْق يكون بها الهلاك . والحق - سبحانه وتعالى - يريد من خَلْقه أنْ يُقبلوا على الكون في كل مظاهره وآياته بيقظة ليستنبطوا ما فيه من مواطن العبر والأسرار لذلك نجد أن كل الاكتشافات جاءت ، نتيجة دِقَّة الملاحظة لظواهر الكون . ويلفتنا ربنا إلى أهمية العلم التجريبي ، فيقول : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] فينبغي إذن أن نتأمل فيما نرى وما توصَّل الإنسان إلى عصر البخار وإلى قانون الطَّفْو عند أرشميدس ، وما توصل إلى الكهرباء والجاذبية والبنسلين إلا بالتأمل الدقيق لظواهر الأشياء ، لذلك فالملاحظة هي أساس كل علم تجريبي أولاً ، ثم التجريب ثانياً ، ثم إعادة التجريب لتخرج النتيجة العلمية . والهواء سبب أساسي في حياة الإنسان ، وبه يحدث التوازن في الكون ، لكن إنْ أراد الحق سبحانه جعله زوبعة أو إعصاراً مدمراً . وسبق أن قلنا : إنك تصبر على الطعام شهراً ، وعلى الماء عشرة أيام ، لكن لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير ، فالهواء إذن أهم سبب من أسباب بقاء الحياة لذلك نسمعهم يقولون في شدة الكيد : والله لأكتم أنفاسه لأنها السبيل المباشر إلى الموت لذلك فالهواء عامل أساسي في وسائل الإهلاك المذكورة . وبالهواء تحفظ الأشياء توازنها ، فالجبال العالية والعمارات الشاهقة ما قامت بقوة المسلحات والخرسانات ، إنما بتوازن الهواء ، بدليل أنك لو فرَّغْتَ جانباً منها من الهواء لانهارتْ في هذا الجانب فوراً . وبهذه النظرية يحدث الدمار بالقنابل لأنها تعتمد على نظرية تفريغ الهواء وما يسمونه مفاعل القبض ومفاعل البسط ، فما قامتْ الأشياء من حولك إلا لأن الهواء يحيط بها من كل جهاتها . وقلنا : إن القرآن الكريم حينما يحدثنا عن الهواء يحدثنا عنه بدقة الخالق الخبير ، فكل ريح مفردة جاءت للتدمير والإهلاك ، وكل ريح بصيغة الجمع للنماء والخير والإعمار ، واقرأ إن شئت قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ … } [ الحجر : 22 ] . وقوله سبحانه : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] لأنها ريح واحدة تهبُّ من جهة واحدة فتدمر . ثم تُختم الآية بهذه الحقيقة : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ] لأن الخالق - عز وجل - كرَّم الإنسان { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ … } [ الإسراء : 70 ] كرَّمه من بين جميع المخلوقات بالعقل والاختيار ، فإذا نظرتَ في الكون واستقرأتَ أجناس الوجود لوجدتَ الإنسان سيد هذا الكون كله . فالأجناس في الكون مرتبة : الإنسان ودونه مرتبة الحيوان ، ثم النبات ، ثم الجماد ، فالجماد إذا أخذ ظاهرة من ظواهر فَضْل الحق عليه من النمو يصير نباتاً ، وإذا أخذ النبات ظاهرة من ظواهر فيض الحق على الخَلْق فأعطاه مثلاً الإحساس يصير حيواناً ، فإذا تجلى عليه الحق سبحانه بفضله وأعطاه نعمة العقل يصير إنساناً . لكن هل النبات حين يأخذ خاصية النمو فَفُضِّل عن الجماد يخرج عن الجمادية ؟ لا إنما تظل فيه الجمادية بدليل أنه إذا امتنع عنه النمو يعود جماداً كالحجر ، وكذلك الحيوان أخذ ظاهرة الحسِّ وتميَّز بها عن النبات ، لكن تظل فيه النباتية حيث ينمو ويكبر . والإنسان وهو سيد الكون الذي كرَّمه ربه بالعقل تظل فيه الجمادية بدليل أثر الجاذبية عليه ، فإذا ألقى بنفسه من مكان عالٍ لا يستطيع أن يمسك نفسه في الهواء ، وكذلك تظل فيه النباتية والحيوانية ، ففيه إذن كل خصائص الأجناس الأخرى دونه ، ويزيد عليهم بالعقل . لذلك لا يكلّفه الله إلا بعد أنْ ينضج عقله ويبلغ ، وبشرط أن يسلم من العطب في عقله كالجنون مثلاً ، وأن يكون مختاراً فالمكره لا تكليفَ عليه لأنه غير مختار . والإنسان الذي كرَّمه ربه بالعقل والاختيار ، وفضَّله على كل أجناس الوجود لا يليق به أن يخضع أو يعبد إلا أعلى منه درجة ، أما أنْ يتدنى فيعبد ما هو أقل منه رتبة ، فهذا شيء عجيب لا يليق به ، فالعابد لا بُدَّ أنْ يكون أدنى درجةً من المعبود ، وأنت بالحكم أعلى درجة مما تحتك من الحيوان والنبات والجماد ، فكيف تجعله يتصرف فيك ، مع أنه من تصرفاتك أنت حين تُوجِده نَحْتاً ، وتقيمه في المكان الذي تريده وإن انكسر تصلحه ؟ ! ! إذن : كرَّمك ربك ، وأهنْتَ نفسك ، ورضيت لها بالدونية ، جعلك سيداً وجعلت نفسك عبداً لأحقر المخلوقات لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي " يا ابن آدم ، خلقتُك من أجلي ، وخلقتُ الكون كله من أجلك ، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له " . إذن : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ … } [ العنكبوت : 40 ] أي : لا ينبغي لله تعالى أنْ يظلمهم ، فساعةَ تسمع ما كان لك أنْ تفعل كذا ، فالمعنى أنك تقدر على هذا ، لكن لا يصح منك ، فالحق سبحانه ينفي الظلم عن نفسه ، لا لأنه لا يقدر عليه ، إنما لأنه لا ينبغي له أنْ يظلم لأن الظلم يعني أن تأخذ حقَّ الغير ، والله سبحانه مالك كل شيء ، فلماذا يظلم إذن . ومثال ذلك نَفْي انبغاء قول الشعر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ … } [ يس : 69 ] فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يقول شعراً ، فلديه كل أدواته ، لكن لا ينبغي للرسول أن يكون شاعراً لأنهم كذابون ، وفي كل واد يهيمون ، ففَرْق بين انبغاء الشيء ووجوده فعلاً . ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] بصيغة المبالغة ظلام ، ولم يقل ظالم ، لماذا ؟ لأن الله تعالى إنْ أباح لنفسه سبحانه الظلم ، فسيأتي على قَدْر قوته تعالى ، فلا يقال له ظالم إنما ظلاَّم - وتعالى الله عن هذا عُلُواً كبيراً . ولما تكلمنا عن المبالغة وصيغها قلنا : إن المبالغة قد تكون في الحدث ذاته ، كأن تأكل في الوجبة الواحدة رغيفاً ، ويأكل غيرك خمسة مثلاً ، أو تكون في تكرار الحدث ، فأنت تأكل ثلاث وجبات ، وغيرك يأكل ستاً ، فنقول : فلان آكل ، وفلان أَكُول أو أكال ، فالمبالغة نشأتْ إما من تضخيم الحدث ذاته ، أو من تكراره . ففي قوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] لم يقل للعبد ، إذن : تعدُّد الناس يقتضي تعدُّد الظلم - إن تُصور - فجاء هنا بصيغة المبالغة ظََلاَّم . وهناك قضية لغوية في مسألة المبالغة تقول : إن نَفْي المبالغة لا ينفي الأصل ، وإثبات الأصل لا يثبت المبالغة ، فحين نقول مثلاً : فلان أكول ، فهو آكل من باب أَوْلَى ، وحين نقول : فلان آكل ، فلا يعني هذا أنه أكول . فنَفْي المبالغة في { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] لا ينفي الأصل ظالم ، وحاشا لله تعالى أن يكون ظالماً . وقوله تعالى : { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ العنكبوت : 40 ] وظلمهم لأنفسهم جاء من تدنّيهم وإهانتهم لأنفسهم بالكفر بعد أنْ كرّمهم الله ، وكان عليهم أنْ يُصعِّدوا هذا التكريم ، لا أن يُهينوا أنفسهم بعبادة الأدنى منهم . وبعد أن حدثتنا الآيات عن الكافرين الذين اتخذوا الشركاء مع الله ، وعن المكذِّبين للرسل وما كان من عقابهم ، تعطينا مثلاً يُقرِّب لنا هذه الحقائق ، فيقول سبحانه : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } .