Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 48-48)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { تَتْلُواْ … } [ العنكبوت : 48 ] أي : تقرأ ، واختار تتلو لأنك لا تقرأ إلا ما سمعت ، فكأن قراءتك لما سمعت تجعل قولك تالياً لما سمعتَ ، نقول : يتلوه يعني : يأتي بعده { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ … } [ العنكبوت : 48 ] يعني : الكتابة . وفَرْق بين أنْ تقرأ ، وبين أنْ تكتب ، فقد تقرأ لأنك تحفظ ، وتحفظ نتيجة السماع ، كإخواننا الذين ابتلاهم الله بكفِّ نظرهم ويقرأون ، إنما يقرأون ما سمعوه لأن السمع كما قلنا أول حاسة تؤدي مهمتها في الإنسان ، فمن الممكن أن تحفظ ما سمعت ، أما أن تكتبه فهذا شيء آخر . والكلام هنا لون من ألوان الجدل والإقناع لكفار قريش الذين يُكذِّبون رسول الله ، ولوْن من ألوان التسلية لرسول الله ، كأنه يقول سبحانه لرسوله : اطمئن . فتكذيب هؤلاء لك افتراء عليك لأنك ما تلوْتَ قبله كتاباً ولا كتبته بيمينك ، وهم يعرفون سيرتك فيهم . كما قال سبحانه في موضع آخر : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يونس : 16 ] . أربعون سنة قضاها رسول الله بين قومه قبل البعثة ، ما جرَّبوا عليه قراءة ولا كتابة ولا خطبة ، ولا نمَّق قصيدة ، فكيف تُكذِّبونه الآن ؟ فإنْ قالوا : كانت عبقرية عند محمد أجَّلها حتى سِنِّ الأربعين . نقول : العبقرية عادة مَا تأتي في أواخر العقد الثاني من العمر في السابعة عشرة ، أو الثامنة عشرة ، ومَنْ ضمن لمحمد البقاء حتى سِنِّ الأربعين ، وهو يرى مصارع أهله ، جده وأبيه وأمه ؟ لو كان عندك شيء من القراءة أو الكتابة لكان لهم عذر ، ولكان في الأمر شبهة تدعو إلى الارتياب في أمرك ، كما قالوا : { وَقَالُوۤاْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] . وقالوا : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ … } [ النحل : 103 ] فردَّ القرآن عليهم { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] . وقالوا : ساحر . وقالوا : شاعر . وقالوا : مجنون . وكلها افتراءات وأباطيل واهية يسهل الردُّ عليها : فإنْ كان ساحراً ، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضاً وتنتهي المسألة ؟ وإنْ كان شاعراً فهل جرَّبتم عليه أنْ قال شعراً قبل بعثته ؟ وإنْ قُلْتم مجنون ، فالجنون فَقْد العقل ، بحيث لا يستطيع الإنسان أنْ يختار بين البدائل ، فهل جرَّبتم على محمد شيئاً من ذلك ؟ وكيف يكون المجنون على خُلُق عظيم بشهادتكم أنتم أنه الصادق الأمين ، فعنده انضباط في الملَكات وفي التصرفات ، فكيف تتهمونه بالجنون ؟ وكلمة { مِن قَبْلِهِ … } [ العنكبوت : 48 ] لها عجائب في كتاب الله منها هذه الآية : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ … } [ العنكبوت : 48 ] فيقول بعض العارفين من قبله : أي من قبل نزول القرآن عليك ، وهذا القول { مِن قَبْلِهِ … } [ العنكبوت : 48 ] يدل على أنه من الجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم كيف يقرأ وكيف يكتب بعد نزول القرآن عليه ، حتى لا يكون في أمته من هو أحسن حالاً منه في أي شيء ، أو في خصلة من خصال الخير . ثم تأمل قوله تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ … } [ البقرة : 91 ] بالله لو جاءت هذه الآية بدون كلمة مِنْ قَبْل ألاَ يدخل في روع رسول الله أنهم ربما يجترئون عليه فيقتَلوه ، فيتهيب منهم ، أو يدخل في نفوسهم هم ، فيجترئون عليه كما قتلوا الأنبياء من قبل لذلك جاءتْ الآية لتقرر أن هذا كان في الماضي ، أما الآن فلن يحدث شيء من هذا أبداً ، ولن يُمكِّنكم الله من نبيه . وكلمة { وَمَا كُنتَ … } [ العنكبوت : 48 ] تكررت كثيراً في كتاب الله ، ويُسمُّونها ماكُنَّات القرآن وفيها دليل على أن القرآن خرق كل الحجب في الزمن الماضي ، والحاضر ، والمستقبل . كما في قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ … } [ القصص : 44 ] . وقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا … } [ القصص : 45 ] . وقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ … } [ آل عمران : 44 ] . وهنا : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ … } [ العنكبوت : 48 ] . لذلك وصفه ربه - عز وجل - بأنه { ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ … } [ الأعراف : 157 ] وإياك أن تظن أن الأمية عَيْب في رسول الله ، فإنْ كانت عيباً في غيره ، فهي فيه شرف لأن معنى أمي يعني على فطرته كما ولدتْه أمه ، لم يتعلم شيئاً من أحد ، وكذلك رسول الله لم يتعلَّم من الخَلْق ، إنما تعلم من الخالق فعلَتْ مرتبةُ علمه عن الخَلْق . ومن ذلك المكانة التي أخذها الإمام علي - رضي الله عنه - في العلم والإفتاء حتى قال عنه عمر رضي الله عنه - مع ما عُرف عن عمر من سداد الرأي حتى إن القرآن لينزلُ موافقاً لرأيه ، ومُؤيّداً لقوله - يقول عمر : بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن . لماذا ؟ لأنه كان صاحب حجة ومنطق وصاحب بلاغة ، ألم يراجع الفاروقَ في مسألة المرأة التي ولدتْ لستة أشهر من زواجها ، وعمر يريد أنْ يقيم عليها الحد لأن الشائع أن مدة الحمل تسعة أشهر فتسرَّع البعض وقالوا : إنها سُبق إليها ، لكن يكون للإمام على رأي آخر ، فيقول لعمر : لكن الله يقول غير هذا ، فيقول عمر : وما ذاك ؟ قال : ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ … } [ البقرة : 233 ] قال : بلى . قال : ألم يقل : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً … } [ الأحقاف : 15 ] وبطرح العامين من ثلاثين شهراً يكون الباقي ستة أشهر ، فإذا ولدتْ المرأة لستة أشهر ، فهذا أمر طبيعي لا ارتيابَ فيه . وفي يوم دخل حذيفة على عمر رضي الله عنهما - فسأله عمر : كيف أصبحتَ يا حذيفة ؟ فقال حذيفة : يا أمير المؤمنين ، أصبحت أحب الفتنة ، وأكره الحق ، وأُصلِّي بغير وضوء ، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء . فغضب عمر ، وهَمَّ أن يضربه بدرة في يده ، وعندها دخل عليٌّ فوجد عمر مُغْضباً فقال : مالي أراك مغضباً يا أمير المؤمنين ؟ فقصَّ عليه ما كان من أمر حذيفة ، فقال علي : نعم يا أمير المؤمنين يحب الفتنة لأن الله تعالى قال : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ … } [ التغابن : 15 ] . ويكره الحق أي : الموت فهو حقّ لكنا نكرهه ، ويُصلِّي على النبي بغير وضوء ، وله في الأرض ولد وزوجة ، وليس ذلك لله في السماء . فقال عمر قولته المشهورة : بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن . فلماذا تميَّز عليٌّ بهذه الميزة من العِلْم والفقه والحجة ؟ لأنه تربَّى في حِجرْ النبوة فاستقى من نَبْعها ، وترعرع في أحضان العلوم الإسلامية منذ نعومة أظافره ، ولم يعرف شيئاً من معلومات الجاهلية ، فلما تتفاعل عنده العلوم الإسلامية لا تَلِد إلا حقاً . ثم يقول سبحانه { إِذاً … } [ العنكبوت : 48 ] يعني : لو حصل منك قراءة أو كتابة { لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ العنكبوت : 48 ] أي : لَكَان لهم عُذْر ووجهة نظر في الارتياب ، والارتياب لا يعني مجرد الشك ، إنما شك باتهام أي : يتهمون رسول الله بأنه كان على عِلْم بالقراءة والكتابة لذلك وصفهم بأنهم مبطلون في اتهامهم له صلى الله عليه وسلم .