Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 47-47)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ … } [ العنكبوت : 47 ] أي : كما أنزلنا كتباً على مَنْ سبقك أنزلنا إليك كتاباً يحمل منهجاً ، والكتب السماوية قسمان : قسم يحمل منهج الرسول في افعل كذا و لا تفعل كذا ، وذلك شركة في كل الكتب التي أُنزِلَتْ على الرسل ، وكتاب واحد هو القرآن ، هو الذي جاء بالمنهج والمعجزة معاً . فكلُّ الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان للواحد منهم كتاب فيه منهج ومعجزة منفصلة عن المنهج ، فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة ، ومعجزته العصا ، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل ، ومعجزته إحياء الموتى بإذن الله . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتابه القرآن ومعجزته القرآن ، فانظر كيف التقت المعجزة بالمنهج لتظل لصيقة به لأن زمن رسالة محمد ممتدٌّ إلى قيام الساعة ، فلا بُدَّ أنْ تظل المعجزة موجودة ليقول الناس محمد رسول الله ، وهذه معجزته . في حين لا نستطيع مثلاً أن نقول : هذا عيسى رسول الله وهذه معجزته لأنها ليست باقية ، ولم نعرفها إلا من خلال إخبار القرآن بها ، وهذا يُوضِّح لنا فَضْل القرآن على الرسل وعلى معجزاتهم حيث ثبتها عند كل مَنْ لم يَرهَا ، فكل مَنْ آمن بالقرآن آمن بها . لكن ، أكُلُّ رسول يأتي بمعجزة ؟ المعجزة لا تأتي إلا لمن تحدَّاه ، واتهمه بالكذب ، فتأتي المعجزة لتثبت صِدْقه في البلاغ عن ربه لذلك نجد مثلاً أن سيدنا شيثاً وإدريس وشَعيباً ليست لهم معجزات . وأبو بكر - رضي الله عنه - والسيدة خديجة أم المؤمنين هل كانا في حاجة إلى معجزة ليؤمنا برسول الله ؟ أبداً ، فبمجرد أنْ قال : أنا رسول الله آمنوا به ، فما الداعي للمعجزة إذن ؟ إذن : تميَّز صلى الله عليه وسلم على إخوانه الرسل بأن كتابه هو عَيْن معجزته . وسبق أنْ قلنا : إن الحق - تبارك وتعالى - يجعل المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم ، فلو تحداهم بشيء لا عِلْم لهم به لقالوا : نحن لا نعلم هذا ، فكيف تتحدّانا به ؟ والعرب كانوا أهل فصاحة وبيان ، وكانوا يقيمون للقوْل أسواقاً ومناسبات ، فتحداهم بفصاحة القرآن وبلاغته أنْ يأتوا بمثله ، ثم بعشر سُور ، ثم بسورة واحدة ، فما استطاعوا ، والقرآن كلام من جنس كلامهم ، وبنفس حروفهم وكلماتهم ، إلا أن المتكلم بالقرآن هو الله تعالى لذلك لا يأتي أحد بمثله . والقرآن أيضاً كتاب يهيمن على كل الكتب السابقة عليه ، يُبقي منها ما يشاء من الأحكام ، ويُنهِي ما يشاء . أما العقائد فهي ثابتة لا نسخَ فيها ، وأيضاً لا نسخَ في القصص والأخبار . والنسْخ لا يتأتى إلا في التشريع بالأحكام افعل ولا تفعل ، ذلك لأن التشريع يأتي مناسباً لأدواء البيئات المختلفة . لذلك كان بعض الرسل يتعاصرون كإبراهيم ولوط ، وموسى وشعيب ، عليهم السلام ، ولكل منهم رسالته لأنه متوجه إلى مكان بعينه ليعالج فيه داءً من الداءات ، في زمن انقطعت فيه سُبُل الالتقاء بين البيئات المختلفة ، فالجماعة في مكان ربما لا يَدْرون بغيرهم في بيئة مجاورة . أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء - كما يعلم ربه أَزَلاً - على موعد مع التقاء البيئات وتداخُل الحضارات ، فالحدث يتم في آخر الدنيا ، فنعلم به ، بل ، ونشاهده في التوِّ واللحظة ، وكأنه في بلادنا . إذن : فالداءات ستتحد أيضاً ، وما دامت داءات الأمم المختلفة قد اتحدتْ فيكفي لها رسول واحد يعالجها ، ويكون رسولاً لكل البشر . ثم يقول سبحانه : { فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ … } [ العنكبوت : 47 ] أي : من قبلك { يُؤْمِنُونَ بِهِ … } [ العنكبوت : 47 ] لأنه لا سلطة زمنية تعزلهم عن الكتاب الجديد ، فينظرون في أوصاف النبي الجديد التي وردتْ في كتبهم ثم يطابقونها على أوصاف رسول الله لذلك لما بلغ سلمان الفارسي أن بمكة نبياً جديداً ، ذهب إلى سيدنا رسول الله ، وأخذ يتأمله وينظر إليه بإمعان ، فوجد فيه علامتين مما ذكرتْ الكتب السابقة ، وهما أنه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ، ولا يقبل الصدقة ، فراح ينظر هنا وهناك لعله يرى الثالثة ، ففطن إليه رسول الله بما آتاه الله من فِطْنة النبوة التي أودعها الله فيه ، وقال : لعلك تريد هذا ، وكشف له عن خاتم النبوة ، وهو العلامة الثالثة . ومن لباقة سيدنا عبد الله بن سلام ، وقد ذهب إلى سيدنا رسول الله وهو - ابن سلام - على يهوديته - فقال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بُهْت - يعني يُكثرون الجدال دون جدوى - وأخشى إنْ أعلنتُ إسلامي أن يسبوني ، وأن يظلموني ، ويقولوا فِيَّ فُحْشاً ، فأريد يا رسول الله إنْ جاءوك أن تسألهم عني ، فإذا قالوا ما قالوا أعلنتُ إسلامي ، فلما جاء جماعة من اليهود إلى رسول الله سألهم : ما تقولون في عبد الله بن سلام ؟ قالوا : شيخنا وحَبْرنا وسيدنا … إلخ فقال عبد الله : أما وقد قالوا فيَّ ما قالوا : يا رسول الله ، فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، فقالوا لتوِّهم : بل أنت شرنا وابن شرنا ، ونالوا منه ، فقال عبد الله : ألم أقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْت ؟ وقوله سبحانه { وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ … } [ العنكبوت : 47 ] أي : من كفار مكة مَنْ سيأتي بعد هؤلاء ، فيؤمن بالقرآن { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ } [ العنكبوت : 47 ] الجحد : إنكار متعمد لأن من الإنكار ما يكون عن جهل مثلاً ، والجحد يأتي من أن النِّسب إما نفي ، وإما إثبات ، فإنْ قال اللسان نسبة إيجاب ، وفي القلب سَلْب أو قال سلب وفي القلب إيجاب ، فهذا ما نُسمِّيه الجحود . لذلك يُفرِّق القرآن بين صيغة اللفظ ووجدانيات اللفظ في النفس ، واقرأ مثلاً قول الله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ … } [ المنافقون : 1 ] وهذا منهم كلام طيب وجميل { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ … } [ المنافقون : 1 ] أي : أنه كلام وافق علم الله ، لكن { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] فكيف يحكم الحق عليهم بالكذب ، وقد قالوا ما وافق علم الله ؟ نقول : كلام الله يحتاج إلى تدبُّر لمعناه ، فالحق يحكم عليهم بأنهم كاذبون ، لا في قولهم : إنك لرسول الله ، فهذه حق ، بل في شهادتهم لأنها شهادة باللسان لا يوافقها اعتقاد القلب ، فالمشهود به حق ، لكن الشهادة كذب . لكن ، لماذا خَصَّ الكافرين في مسألة الجحود ؟ قالوا : لأن غيرالكافر عنده يقظة وجدان ، فلا يجرؤ على هذه الكلمة لأنه يعلم أن الله تعالى لا يأخذ الناس بذنوبهم الآن ، إنما يُؤجِّلها لهم ليوم الحساب ، فهذه المسألة تحجزهم عن الجحود .