Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 5-5)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
معنى { يَرْجُو لِقَآءَ ٱللَّهِ … } [ العنكبوت : 5 ] يعني : يؤمن به وينتظره ويعمل من أجله ، يؤمن بأن الله الذي خلقه وأعدَّ له هذا الكون ليحيا حياته الطيبة ، وأنه سبحانه بعد ذلك سيُعيده ويحاسبه لذلك إنْ لم يعبده ويطعْه شُكْراً له على ما وهب ، فليعبده خوفاً منه أنْ يناله بسوء في الآخرة . وأهل المعرفة يروْنَ فرقاً بين مَنْ يرجو الثواب ويرجو رحمة الله ، ومن يرجو لقاء الله لذات اللقاء ، لا خوفاً من نار ، ولا طمعاً في جنة لذلك تقول رابعة العدوية : @ كُلُّهم يَعْبدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ ويروْنَ النجاةَ حَظَّاً جَزِيلاً أَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنانَ فيحظَوْا بقُصُورٍ ويَشْربُوا سَلْسبِيلا لَيْسَ لي بالجنَانِ والنّارِ حَظٌّ أنَا لا أبتغي بحِبي بَديلاَ @@ أي : أحبك يا رب ، لأنك تُحَبُّ لذاتك ، لا خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، وهي أيضاً القائلة : اللهم إنْ كنتَ تعلم أني أحبك طمعاً في جنتك فاحرمني منها ، وإنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بها . ويقول تعالى في سورة الكهف : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] ولو كانت الجنة لأن لقاء الله أعظم ، وهو الذي يُرْجى لذاته . والحق سبحانه يؤكد هذه المسألة بأكثر من مؤكد : { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ … } [ العنكبوت : 5 ] فأكَّده بإن واللام وصيغة اسم الفاعل الدالة على تحقُّق الفعل ، كما قال سبحانه : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } [ القصص : 88 ] ولم يقل : سيهلك ، وقوله سبحانه مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] . يخاطبهم بهذه الصيغة وهم ما يزالون أحياءً لأن الميِّت : مَنْ يؤول أمره وإن طال عمره إلى الموت ، أما مَنْ مات فعلاً فيُسمَّى مَيْت . وأنت حينما تحكم على شيء مستقبل تقول : يأتي أو سيأتي ، وتقول لمن تتوعده : سأفعل بك كذا وكذا ، فأنت جازفتَ وتكلمتَ بشيء لا تملك عنصراً من عناصره ، فلا تضمن مثلاً أنْ تعيش لغدٍ ، وإنْ عشتَ لا تضمن أن يعيش هو ، وإنْ عاش ربما يتغير فكرك ناحيته ، أو فقدتَ القدرة على تنفيذ ما تكلمت به كأنْ يصيبك مرض أو يُِلِم بك حدث . لكن حينما يتكلم مَنْ يملك أزِمّة الأمور كلها ، ويعلم سبحانه أنه لن يفلت أحد منه ، فحين يحكم ، فليس للزمن اعتبار في فعله ، لذلك لم يقل سبحانه : إن أجل الله سيأتي ، بل { لآتٍ … } [ العنكبوت : 5 ] على وجه التحقيق . وسبق أنْ ذكرنا في هذا الصدد قوله تعالى عن القيامة : { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ … } [ النحل : 1 ] وقد وقف السطحيون أمام هذه الآية يقولون : وهل يستجعل الإنسان إلا ما لم يَأْتِ بَعْد ؟ لأنهم لا يفهمون مراد الله ، وليست لديهم مَلَكة العربية ، فالله تعالى يحكم على المستقبل ، وكأنه ماضٍ أي مُحقّق لأنه تعالى لا يمنعه عن مراده مانع ، ولا يحول دونه حائل . ولفظ الأجل جاء في القرآن في مواضع كثيرة ، منها : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] وفي الآية التي معنا : { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ … } [ العنكبوت : 5 ] . والأجلان مختلفان بالنسبة للحضور الحياتي للإنسان ، فالأجل الأول يُنهي الحياة الدنيا ، والأجل الآخر يُعيد الحياة في الآخرة للقاء الله عز وجل ، إذن : فالأجلان مرتبطان . والحق - سبحانه وتعالى - حينما يعرض لنا قضية غيبية يُؤنِسنا فيها بشيء حسيٍّ معلوم لنا ، حتى يستطيع العقل أن ينفذ من الحَسيِّ إلى الغيبي غير المشاهد . وأنت ترى أن أعمار بني آدم في هذه الحياة تتفاوت : فواحد تغيض به الأرحام ، فلا يخرج للحياة ، وواحد يتنفس زفيراً واحداً ويموت … إلخ . وفي كل لحظة من لحظات الزمن نعاين الموت ، مَنْ يموت بعد نفَس واحد ، ومَنْ يموت بعد المائة عام . إذن : فلا رتابة في انقضاء الأجل ، لا في سِنٍّ ولا في سبب : فهذا يموت بالمرض ، وهذا بالغرق ، وهذا يموت على فراشه . لذلك يقول الشاعر : @ فَلا تحسَب السُّقْم كأسَ الممات وإنْ كانَ سُقْماً شَديد الأَثَر فَرُبَّ عليلٍ تراهُ اسْتفاقَ ورُبَّ سَليمٍ تَرَاهُ احتُضرْ @@ وقال آخر : @ وَقَدْ ذَهَب الممتِلي صحةً وصَحَّ السَّقِيمُ فَلَمْ يذْهب @@ وتجد السبب الجامع في الوباءات التي تعتري الناس ، فيموت واحد ويعيش آخر ، فليس في الموت رتابة ، والحق - سبحانه وتعالى - حينما يقول : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] نجد واقع الحياة يؤكد هذا ، فلا وحدةَ في عمر ، ولا وحدةَ في سبب . والصدق في الأجل الأول المشاهد لنا يدعونا إلى تصديق الأجل الآخر ، وأن أجل الله لآت ، فالأجل الذي أنهى الحياة بالاختلاف هو الذي يأتي بالحياة بالاتفاق ، فبنفخة واحدة سنقوم جميعاً أحياءً للحساب ، فإن اختلفنا في الأولى فسوف نتفق في الآخرة لأن الأرواح عند الله من لَدُنْ آدم عليه السلام وحتى تقوم الساعة ، وبنفخة واحدة يقوم الجميع . وسبق أن قُلْنا : إن الأزمان ثلاثة : حاضر نشهده ، وماضٍ غائب عنا لا نعرف ما كان فيه ، ومستقبل لا نعرف ما يكون فيه . والحق سبحانه يعطي لنا في الوجود المشاهد دليلَ الصدق في غير المشاهد ، فنحن مثلاً لا نعرف كيف خلقنا الخَلْق الأول إلا من خلال ما أخبرنا الله به من أن أَصلْ الإنسان تراب اختلط بالماء حتى صار طيناً ، ثم حمأ مسنوناً ، ثم صلصالاً كالفخار … إلخ . ثم جعل نسل الإنسان من نطفة تتحول إلى علقة ، ثم إلى مضغة ، ثم إلى عظام ، ثم تُكْسى العظام لحماً . وإنْ كان العلم الحديث أرانا النطفة والعلقة والمضغة ، وأرانا كيف يتكوَّن الجنين ، فيبقى الخَلْق الأول من تراب غيباً لا يعلمه أحد . ولا تُصدِّق من يقول : إني أعلمه لأن الله تعالى حذرنا من هؤلاء المضلين في قوله : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . فلا علمَ لهم بخَلْق الإنسان ، ولا علمَ لهم بخَلْق ظواهر الكون ، فلا تسمع لهم ، وخُذْ معلوماتك من كتاب ربك الذي خلق سبحانه ، ويقوم وجود المضلين الذين يقولون : إن الأرض قطعة من الشمس انفصلتْ عنها ، أو أن الإنسان أصله قرد - يقوم وجودهم ، وتقوم نظرياتهم دليلاً على صدق الحق سبحانه فيما أخبر . وإلا ، فكيف نُصدِّق نظرية ترقِّي القرد إلى الإنسان ؟ ولماذا ترقّى قرد دارون ولم تترقَّ باقي القرود ؟ وإذا كان المؤمن مُصدِّقاً بقوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] لأنه آمن بالله ، وآمن بما جاء به رسول الله ، فكيف بمَنْ لا يؤمن ولا يُصدِّق ؟ لذلك يُؤنِس الحق سبحانه هذه العقول المستشرفة لمعرفة حقائق الأشياء يُؤنِسها بما تشاهد : فإنْ كنتَ لا تُصدِّق مسألة الخَلْق فأنت بلا شكٍّ تشاهد مسألة الموت وتعاينه كل يوم ، والموت نَقْضٌ للحياة ، ونَقْض الشيء يأتي عكْس بنائه . والخالق - عز وجل - أخبر أن الروح هي آخر شيء في بناء الإنسان ، لذلك هي أول شيء يُنقَض فيه عند الموت ، إذن : مشهدك في كيف تموت ، يؤكد لك صِدْق الله في كيف جئت ؟ وأجل الآخرة أمر لا بُدَّ منه ليُثاب المطيع ويُعَاقب العاصي ، أَلاَ ترى إلى النظم الاجتماعية حتى عند غير المؤمنين تأخذ بهذا المبدأ لاستقامة حركة الحياة ؟ فما بالك بمنهج الله تعالى في خَلْقه ، أيترك الظالم والمجرم يُفلِت من العقاب في الآخرة بعد أنْ أفلت من عقاب الدنيا ؟ وكنا نردُّ بهذا المنطق على الشيوعيين : لقد عاقبتُم مَنْ طالته أيديكم من المجرمين ، فكيف بمَنْ ماتوا ولم تعاقبوهم ، أليستِ الآخرةُ تحلّ لكم هذا المأزق ؟ ثم تُختمَ الآية بقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 5 ] ألا ترى أنه تعالى لو قال : العليم فقط لشملَ المسموع أيضاً لأن العلم يحيط بكل المدركات ؟ فلماذا قال { ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 5 ] ؟ قالوا : لأن اللغة العربية حينما تكلمتْ عن العمل والفعل والقول قسَّمت الجوارح أقساماً : فاللسان له القول ، وبقية الجوارح لها الفعل ، وهما جميعاً عمل ، فالقول عمل اللسان ، والفعل عمل بقية الجوارح ، فكأن اللسان أخذ شطر العمل ، وبقية الجوارح أخذت الشطر الآخر . وباللسان معرفة إيمانك ، حين تقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وهي أشرف ما يعمل الإنسان ، وبه بلاغ الرسول عن الله لخَلْقه ، إذن : فأفعال الجوارح الشرعية ناشئة من اللسان ومن السماع لذلك جعل القول وهو عمل اللسان شطر العمل كله . ولأهمية القول قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] فكل فعل ناشىء عن انصياع لقول أو سماع لقول لذلك ختم سبحانه هذه الآية بقوله : { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 5 ] .