Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 6-6)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وكلمة { جَاهَدَ … } [ العنكبوت : 6 ] تناسب النجاح في الابتلاء ، والجهاد : بذْل الجهد في إنفاذ المراد ، ومنه اجتهد فلان في كذا يعني : عمل أقصى ما في وُسْعه من الجدِّ والاجتهاد في أن يستنبط الحكم . والجهاد له مجالان : مجال في النفس يجاهدها ليقْوَى بمجاهدة نفسه على مجاهدة عدوه . وجاهد : مفاعلة ، كأن الشيء الذي تريده صعب ، يحتاج إلى جهد منك ومحاولة ، والمفاعلة تكون من الجانبين : منك ومن الشيء الذي يقابلك ، وأول ميادين الجهاد النفس البشرية لأن ربك خلق فيك غرائز وعواطف لمهمة تؤديها ، ثم يأتي منهج السماء ليكبح هذه الغرائز ويُرقِّيها ، حتى لا تنطق معها إلى ما لا يُباح . فحب الاستطلاع مثلاً غريزة محمودة في البحث العلمي والاكتشافات النافعة ، أمّا إنْ تحوّل إلى تجسُّس وتتبع لعورات الناس فهو حرام الأكل والشرب غريزة لتقتات به ، وتتولد عندك القدرة على العمل ، فإنْ تحوَّل إلى نهم وشراهة فقد خرجت بالغريزة عن مرادها والهدف منها . وعجيب أمر الناس في تناول الطعام ، فالسيارة مثلاً لا نعطيها خليطاً من الوقود ، إنما هو نوع واحد ، أما الإنسان فلا تكفيه عدة أصناف ، كل منها لها تفاعل في الجسم ، حينما تتجمع هذه التفاعلات تضر أكثر مما تنفع . إذن : هذه الغرائز تحتاج منك إلى مجاهدة لتظل في حَدِّ الاعتدال ، عملاً بالأثر : " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع ، ولا نشرب حتى نظمأ ، وإذا شربنا لا نقنع " . ولو عملنا بهذا الحديث لَقضيْنا على القنبلة الذرية للاقتصاد في بلادنا ، وكم تحلو لك اللقمة بعد الجوع مهما كانت بسيطة وغير مكلِّفة لذلك يقولون : نعم الإدام الجوع ، ثم إذا أكلتَ لا تملأ المعدة ، ودع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفَسه " . وبهذا المنهج الغذائي الحكيم نضمن بنية سليمة وعافية لا يخالطها مرض . فالغرائز خلقها الله فيك لمهمة ، فعليك أنْ تقف بها عند مهمتك . ومثل الغرائز العواطف من حب وكُرْه وشفقه وحُزْن … إلخ ، وهذه ليس لها قانون إلا أنْ تقفَ بها عند حدود العاطفة لا تتعداها إلى النزوع ، فأحبب مَنْ شئتَ وأبغض مَنْ شئتَ ، لكن لا تتعدَّ ولا تُرتِّب على العاطفة حكماً . وقد ذكرنا لهذه المسألة مثالاً بسيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان له أخٌ اسمه زيد قُتل ، ثم أسلم قاتله ، فكان عمر كلما رآه يقول له : ازْوِ عني وجهك - يعني : أنا لا أحبك - فيقول : أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي ؟ قال : لا ، قال : إنما يبكي على الحب النساء . يعني : الحب والكره مسائل يهتم بها النساء ، والمهم العمل ، وما يترتب على هذه العواطف . ومن المجاهدة مجاهدة مَنْ سُلِّط عليك من جبار أو نحوه ، تجاهده وتصبر على إيذائه ، فحبُّك للحق يجعلك تصبر عليه ، يقول تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] . كل هذه بلاءات تحتاج إلى مجاهدة ، فإنْ كان لك غريم فإنْ قدرت أن تدفع أذاه بالتي هي أحسن فافعل ، وإنْ أردت أنْ تعاقب فعاقب بالمثل ، وهذه مسألة صعبة لأنك لا تستطيع تقدير المثلية أو ضبطها ، بحيث لا تتعدى ، فمثلاً لو ضربك خصمك ضربة ، أتستطيع أنْ تردَّ عليه بمثلها دون زيادة ؟ إذن : فلا تُدخل نفسك في هذه المتاهة ، وأَوْلَى بك أنْ تأخذ بقوله تعالى { وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ … } [ آل عمران : 134 ] وتنتهي المسألة . فإذا كانت المصيبة لا غريمَ لك فيها ، كالمرض والموت وغيرهما من القدريات التي يُجريها الله عليك ، فقُلْ إن ربي أراد بي خيراً ، فبها تُكفّر الذنوب والسيئات وبها أنال أجر الصابرين ، وربما أنني غفلت عن ربي أو غرَّتني النعمة ، فابتلاني الله ليلفتني إليه ويُذكِّرني به . ومن المجاهدة مجاهدة النفس في تلقِّي المنهج بافعل ولا تفعل ، والتكليف عادةً ما يكون شاقاً على النفس يحتاج إلى مجاهدة ، وإياك أنْ تنقلَ مدلول افعل في لا تفعل ، أو تنقل مدلول لا تفعل في افعل . وحين تستقصي افعل ولا تفعل في منهج الله تجده يأخذ نسبة سبعة بالمائة من حركاتك في الحياة ، والباقي مباحات ، لك الحرية تفعلها أو تتركها . وقد يتعرض الإنسان المستقيم للاستهزاء والسخرية حتى مِمَّن هو على دينه ، لأن المنحرف دائماً يشعر بنقص فيتضاءل ويصغَر أمام نفسه ، ويحاول أن يجر الآخرين إلى نفس مستواه حتى يتساوى الجميع ، وإلا فكيف تكون أنت مهتدياً مستقيماً وهو عاصٍ ضالٌّ لذلك تراه يسخر منك ويُهوِّن من شأنك ، لماذا ؟ ليُزهِّدك في الطاعة ، فتصير مثله . واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 29 - 36 ] . ولا شكَّ أن مثل هذا يحتاج منك إلى صبر على أذاه ، ومجاهدة للنفس حتى لا تقع في الفخِّ الذي ينصبه لك . وقد تأتيك الوسوسة من الشيطان فيُزيِّن لك الشر ، ويُحبِّب إليك المعصية ، وعندها تذكر قول الله تعالى : { يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ … } [ الأعراف : 27 ] . فعليك - إذن - أن تتذكّر العداوة الأولى بين أبيك آدم وبين الشيطان لتكون منه على حذر ، وسبق أن أوضحنا كيف نفرق بين المعصية التي تأتي من النفس ، والتي تأتي من وسوسة الشيطان ، فالنفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد غيرها ، أما الشيطان فإنْ تأبيتَ عليه في ناحية نقلك إلى أخرى ، المهم عنده أنْ يُوقِعك على أي حال . إذن : أعداؤك كثيرون ، يحتاجون منك إلى قوة إرادةَ وإلى مجاهدة . ومجيء هذه الآية التي تذكر الجهاد بعد قوله تعالى { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 5 ] يطلب من الإنسان الذي يعتقد أن أجلَ الله بلقاء الآخرة أتٍ ، وذلك أمر لا شكَّ فيه - يطلب منه أنْ يستعدَّ لهذا اللقاء . وقال تعالى : { فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 6 ] لأن الإنسان طرأ على كون مُهيأ لاستقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه ، فكل ما في الكون خادم لك ، ولن تزيد أنت في مُلْك الله شيئاً ، وكل سَعْيك وفكرك لترف حياتك أنت ، فحين تفعل الخير فلن يستفيدَ منه إلا أنت وربك غني عن عطائك . فإنْ جاهدتَ فإنما تجاهد لنفسك ، كما لو امتنَّ عليك خادمك بالخدمة فتقول له : بل خدمتَ نفسك وخدمتَ عيالك حينما خدمتَ لتوفر لك ولهم أسباب العيش ، وأنا الذي تعبتُ وعرقتُ لأوفر لك المال الذي تأخذه . وكذلك الحق سبحانه يقول لنا { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ … } [ العنكبوت : 6 ] أي : حينما يطبق المنهج ويسير على هُداه ، والحق سبحانه يؤكد هذه القضية في آيات عديدة { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] . ويقول الحق سبحانه : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا … } [ الإسراء : 7 ] . ويقول سبحانه : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ … } [ البقرة : 286 ] . إذن : المسألة منك وإليك ، ولا دخلَ لنا فيها إلا حِرْصنا على صلاح الخَلْق وسلامتهم ، كصاحب الصَّنْعة الذي يريد لصنعته أن تكون على خير وجه وأكمله ، لذلك أفيضُ عليه من قدراتي قدرة ، ومن علمي علماً ، ومن بَسْطي بَسْطاً ، ومن جبروتي جبروتاً ، وأعطيه من صفاتي . لذلك قال بعض العارفين : " تخلقوا بأخلاق الله " . لأن العون في وهب الصفات ومجال الصفات في الفعل ليس في أنْ أفعل لك ، إنما في أنْ أُعينك لتفعل أنت ، فالواحد منا حينما يرى عاجزاً لا يستطيع حَمْل متاعه ، ماذا يفعل ؟ يحمله عنه ، أي : يُعدِّي إليه أثر قوته ، إنما يظل العاجز عاجزاً والضعيف ضعيفاً كلما أراد شيئاً احتاج لمن يقوم له به . أما الحق - سبحانه وتعالى - فيفيض عليك من قوته ، ويهبُ لك من قدرته وغِنَاه لتفعل أنت بنفسك لذلك مَنْ يتخلق بأخلاق الله يقول : لا تعْطِ الفقير سمكة ، إنما علِّمه كيف يصطاد ، حتى لا يحتاج لك في كل الأوقات ، أفِضْ عليه ما يُديم له الانتفاع به . إذن : الحق سبحانه يهَبُ القادرين القدرةَ ، ويهَبُ الأغنياء الغِنَى ، والعلماءَ العلمَ والحكماءَ الحكمةَ . وهذه من مظاهر عظمته تعالى ألاَّ يُعدِّي أثر الصفة إلى عباده ، إنما يُعدِّي بعض الصفة إليهم ، لتكون ذاتية فيهم . بل ويعطي سبحانه ما هو أكثر من ذلك ، يعطيك الإرادة التي تفعل بها لمجرد أن تفكر في الفعل ، بالله ماذا تفعل لكي تقوم من مكانك ؟ ماذا تفعل حينما تريد أنْ تحمل شيئاً أو تحرك عضواً من أعضائك ؟ هل أمرتها أمراً ؟ هل قلت لها افعلي كذا وكذا ؟ حين تنظر إلى البلدوزر مثلاً أو الونش كيف يتحرك ، وكيف أن لكل حركة فيه زراً يحركها وعمليات آلية معقدة ، تأمل في نفسك حين تريد أن تقوم مثلاً بمجرد أن تفكر في القيام ، تجد نفسك قائماً ، مرادك أنت في الأعضاء أن تفعل وتنفعل لك . إذن ، حينما يقول لك ربك : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] فصدِّقه لأنك شاهدتها في نفسك وفي أعضائك ، فما بالك بربك - عز وجل - أيعجز أن يفعل ما تفعله أنت ؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تنام أو تبطش بيدك ؟ لا شيء غير الإرادة في داخلك لأن ربك خلع عليك من قدرته ، وأعطاك شيئاً من قوله كُنْ وقدرة من قدرته ، لكن لم يشأ أنْ يجعلها ذاتية فيك حتى لا تغترّ بها . لذلك إنْ أراد سبحانه سَلبَها منك لقوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] فتأتي لتحرك ذراعك مثلاً فلا يطاوعك ، لقد شُلَّ ويأبى عليك بعد أنْ كان طَوْع إرادتك ، ذلك لتعلم أنه هِبَة من الله ، إنْ شاء أخذها فهي ليست ذاتية فيك . فالمجاهدة تشمل ميادين عديدة ، مجاهدة الغرائز والعواطف ، ومجاهدة مشقة المنهج في افعل ولا تفعل ، ومجاهدة شياطين الإنس والجن ، ومجاهدة خصوم الإسلام الذين يريدون أنْ يُطفئوا نور الله . وروى البخاري " أن خباب بن الأرتّ دخل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إننا في شدة ، ألاَ تستنصر لنا ؟ أَلاَ تدعو لنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إنه كان الرجل فيمن قبلكم تُحفر له الحفرة ، فيُوضع فيها ، ثم يُؤتَى بالمنشار فيُقَدُّ نصفين ، ثم يُمشَطُ لحمه عن عظمه بأمشاط الحديد ، فلا يصرفه ذلك عن دين الله " . ثم يطمئنه رسول الله على أن هذه الفترة - فترة الابتلاء - لن تطول ، فيقول : " والله لَيُتِمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئبَ على غنمه " . والنبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين ، " يدخل عليه سيدنا أبو سعيد الخدري فيجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي حرارة الحمى ، فوضع يده على اللحاف الذي يلتحف به سيدنا رسول الله ، فيُحِسّ حرارته من تحت اللحاف ، فقال له : يا رسول الله ، إنها لشديدة عليك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " يا أبا سعيد ، إنه يُضعَّف لنا البلاء كما يُضعَّف لنا الجزاء " . ذلك ليثبت أن البلاء لا يكون فقط من الأعداء ، إنما قد يكون من الله تعالى ، لماذا ؟ لأن الله يباهي ملائكته بخَلْقه الطائعين المخبتين الصابرين ، فيقولون : كيف لا يحبونك ويقبلون على طاعتك ، وقد أنعمتَ عليهم بكذا وكذا ، ويذكرون حيثيات هذه الطاعة ، فيقول تعالى : وأسلب كل ذلك منهم ويحبونني ، أي : يحبونني لذاتي . ثم تختم هذه الآية بقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 6 ] لأن ميادين الجهاد هذه لا يعود منها شيء إلى الله تعالى ، ولا تزيد في مُلكه شيئاً ، إنما يستفيد منها العبد لأنه سبحانه الغني عن طاعة الطائعين وعبادة المتعبدين ، ليس غنياً عنهم وفقط ، إنما هو سبحانه الذي يُغنيهم ويُفيض عليهم من فَضلْه ومن غِناه . ثم يقول الحق سبحانه : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ … } .