Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 60-60)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يريد سبحانه أن يُطمئن خَلْقه على أرزاقهم ، فيقول { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ … } [ العنكبوت : 60 ] كأيٍّ لها مَعَانٍ متعددة ، مثل كم الخبرية حين تقول لمن ينكر جميلك : كم أحسنتُ إليك ؟ يعني : كثيراً جداً ، كذلك في { وَكَأَيِّن … } [ العنكبوت : 60 ] أي : كثير كما في { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ … } [ آل عمران : 146 ] . والدابة : هي التي تدبّ على الأرض ، والمراد كل حيٍّ ذي حركة ، وقد تقول : فالنمل - مثلاً - لا نسمع له دبَّة على الأرض أيُعَدُّ من الدابة ؟ نعم فله دبَّة على الأرض ، لكنك لا تسمعها ، فالذي خلقها يسمع دبيبها لأن الذي يقبل الصغر يقبل الكبر ، لكن ليس عندك أنت آلة السماع . بدليل أن الذي يعاني من ضعف السمع مثلاً ينصحه الطبيب بتركيب سماعة للأذن فيسمع ، وكذلك في النظارة للبصر ، إذن : فكل شيء له أثر مرئي أو مسموع ، لكن المهم في الآلة التي تسمع أو ترى لذلك يقولون إنْ أرادوا المبالغة فلان يسمع دَبّة النملة . ومعنى { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا … } [ العنكبوت : 60 ] ليست كلّ الدواب تحمل رزقها ، فكثير منها لا تحمل رزقاً ، ومع ذلك تأكل وتعيش ، ويحتمل أن يكون المعنى : لأنها لا تقدر على حمله ، أو تقدر على حمله ولكنها لا تفعل ، فمثلاً القمل والبراغيث التي تكثر مع الإهمال في النظافة الشخصية أتحمل رزقاً ؟ والناموسة التي تتغذى مع ضَعْفها على دم الإنسان الفتوة المتجبر ، الميكروب الذي يفتك بالإنسان … إلخ هذه أشياء لا تحمل رزقها . أما الحمار مثلاً مع قدرته على الحمل لا يحمل رزقه لذلك تراه إنْ شبع لا يدخر شيئاً ، وربما يدوس الأكل الباقي ، أو يبول عليه ، وكذلك كل الحيوانات حتى أنهم يقولون : لا يعرف الادخار من المخلوقات إلا الإنسان والفأر والنمل . وقد جعل الله الادخار في هؤلاء لحكمة ولبيان طلاقة قدرته تعالى ، وأن الادخار عند هذه المخلوقات ليس قُصوراً من الخالق سبحانه في أن يجعل بعض الدوابّ لا تحمل رزقها ، بل يخلق لها وسائل تعجز أنت عنها . ولك أن تتأمل قرى النمل وما فيها من عجائب ، فقد لاحظ الباحثون في هذا المجال أنك لو تركت بقايا طعام مثلاً تأتي نملة وتحوم حوله ثم تنصرف وترسل إليه عدداً من النمل يستطيع حمل هذه القطعة ، ولو ضاعفت وزن هذه القطعة لتضاعف عدد النمل . إذن : فهي مملكة في غاية التنظيم والدقة والتخصص ، والأعجب من ذلك أنهم لاحظوا على النمل أنها تُخرِج فُتاتاً أبيض صغيراً أمام الأعشاش ، فلما فحصوه وجدوه الزريعة التي تُسبِّب الإنبات في الحبة حتى لا تنبت ، فتهدم عليهم العُشَّ ، فسبحان الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى . وأعجب من ذلك ، وجدوا النمل يفلق حبة الكسبرة إلى أربعة أقسام ، لأن نصف حبة الكسبرة يمكنه أنْ يَنبت منفرداً ، فقسموا النصف . إذن : فكثير من الدواب لا تحمل رزقها { ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ … } [ العنكبوت : 60 ] فذكر الدواب أولاً في مجال الرزق ثم عطف عليها { وَإِيَّاكُمْ … } [ العنكبوت : 60 ] فنحن معطوفون في الرزق على الدواب ، مع أن الإنسان هو الأصل ، وهو المكرّم ، والعالم كله خُلِق من أجله ولخدمته ، ومع ذلك لم يقُلْ سبحانه : نحن نرزقكم وإياهم ، لماذا ؟ قالوا : لأنك تظن أنها لا تستطيع أن تحمل أو تُدبِّر رزقها ، ولا تتصرف فيه ، فلفت نظرك إلى أننا سنرزقها قبلك . وقد وقف المستشرقون الذين يأخذون القرآن بغير الملَكة العربية يعترضون على قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ … } [ الإسراء : 31 ] . وقوله سبحانه : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ … } [ الأنعام : 151 ] . يقولون : أيّهما أبلغ من الأخرى ، وإن كانت إحداهما بليغة ، فالأخرى غير بليغة . وهذا الاعتراض ناتج عن ظنهم أن الآيتين بمعنى واحد ، وهما مختلفتان ، فالأولى { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ … } [ الإسراء : 31 ] فالفقر هنا غير موجود وهم يخافونه ، أما في : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ … } [ الأنعام : 151 ] فالفقر موجود فعلاً . فهما مختلفتان في الصَّدْر ، وكذلك مختلفتان في العَجُز . ففي الأولى قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم … } [ الإسراء : 31 ] لأن الفقر غير موجود ، وأنت غير مشغول برزقك ، فبدأ بالأولاد ، أمّا في الثانية فقال : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ … } [ الأنعام : 151 ] وقدم الآباء لأن الفقر موجود ، والإنسان مشغول أولاً برزق نفسه قبل رزق أولاده . إذن : فلكل آية معنى وانسجام بين صَدْرها وعَجُزها ، المهم أن تتدبر لغة القرآن ، وتفهم عن الله مراده . وقوله سبحانه : { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 60 ] واختار هنا السميع العليم لأن الحق سبحانه له قيُّومية على خَلْقه ، فلم يخلقهم ثم يتركهم للنواميس ، إنما خلق الخَلْق وهو سبحانه قائم عليه بقيوميته تعالى لذلك يقول في بيان عنايته بصنعته { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ … } [ البقرة : 255 ] يعني : يا عبادي ناموا مِلْءَ جفونكم لأن ربكم لا ينام . ومناسبة السميع هنا أن الجوع إذا هَزَّ إنساناً ربما يصيح صيحة ، أو يُحدِث شيئاً يدل على أنه جائع ، فكأنه يقول : لم أجعلكم كذلك . ثم يقول الحق سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ … } .