Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 68-68)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
هذا استفهام يريد منه الحق - سبحانه وتعالى - قضية يُقرها المقابل ، فلم يوردها بصيغة الخبر : لا أظلم لأن الخبر في ذاته يحتمل الصدق أو الكذب ، فجاء بصيغة الاستفهام لتنطق أنت بالقضية ، كما تقول لمن ينكر معروفك : مَنْ أعطاك هذا الثوب ؟ فلا يملك إلا أنْ يعترف بفضلك ، لكن إنْ قلت له إخباراً : أنا أعطيتُك هذا الثوب ، فالخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب ، وربما ينكر فيقول : لا لم تعطني شيئاً . إذن : إيراد الكلام بأسلوب الاستفهام أقوى في تقرير واقع من أسلوب الخبر لأن الخبر يأتي من المتكلم ، أمّا الإقرار فمن السامع ، وأنت لا تُلقِي بالاستفهام إلا وأنت واثق أن الجواب سيأتي على وَفْق ما تريد . فمعنى { وَمَنْ أَظْلَمُ … } [ العنكبوت : 68 ] لا أحد أظلم ، والظلم : نَقْل الحق من صاحبه إلى غيره ، والظلم قد يكون كبيراً وعظيماً ، وهو الظلم في القمة في العقيدة ، كما قال سبحانه : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . وقد يكون الظلم بسيطاً هيِّناً ، فالذي افترى على الله الكذب ، لا أحدَ أظلم منه لأنه لو افترى على مثله لكان أمره هيناً ، لكنه افترى على مَنْ ؟ على الله ، فكان ظلمه عظيماً ، ومن الحمق أن تفتري على الله لأنه سبحانه أقوى منك يستطيع أن يُدلل ، وأنْ يبرهن على كذبك ، ويستطيع أن يدحرك ، وأن يُوقفك عند حدِّك ، فمَنِ اجترأ على هذا النوع من الظلم فإنما ظلم نفسه . وقلنا : إن الافتراء كذب ، لكنه متعمد لأن الإنسان قد يكذب حين يخبر على مقتضى علمه ، إنما الواقع خلاف ما يعلم ، لذلك عرَّف العلماء الصدق والكذب فقالوا : الصدق أنْ يطابق الكلامُ الواقعَ ، والكذب أن يخالف الكلامُ الواقعَ ، فلو قلتُ خبراً على مقتضى علمي ، ولم أقصد مخالفة الواقع ، فإن خالف كلامي الواقع فالخبر كاذب ، لكن المخبر ليس بكاذب . وقوله سبحانه : { أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ … } [ العنكبوت : 68 ] فيا ليته افترى على الله كذباً ابتداءً ، إنما صعَّد كذبه إلى مرحلة أخرى فعمد إلى أمر صِدْق وحقٍّ فكذَّبه ، ثم يقرر جزاء هذا التكذيب بأسلوب الاستفهام أيضاً { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 68 ] يعني : أضاقتْ عنهم النار ، فليس بها أمكنة لهؤلاء ؟ بلى بها أمكنة لهم ، بدليل أنها ستقول وهي تتشوق إليهم حين تسأل : { هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] . وكأن الحق سبحانه يقول : لماذا يفتري هؤلاء على الله الكذب ؟ ولماذا يُكذِّبون الحق ؟ اعلموا أن جهنم ليس بها أماكن لهم ؟ فالاستفهام في { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 68 ] استفهام إنكاري يُنكر أن يظن المكذبون الكافرون أنه لا مكان لهم في جهنم . فالحق سبحانه في إرادته أزلاً أن يخلق الخَلْق من لَدُن آدم - عليه السلام - وإلى أنْ تقوم الساعة ، وأنْ يعطيهم الاختيار { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … } [ الكهف : 29 ] وقدر أن يؤمنوا جميعاً فأعدَّ لهم أماكنهم في الجنة ، وقدر أن يكفروا جميعاً فأعدَّ لهم أماكنهم في النار . فإذا كان يوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النارَ ، يورث الله المؤمنين في الجنة أماكن الكافرين فهيا فيتقاسمونها بينهم ، وكذلك يتقاسم أهل النار أماكن المؤمنين في النار بالرد ، فمَنْ كان له في النار مكان واحد يصير له مكانان . كما أن الاستفهام { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 68 ] يجعل السامع يشاركك الكلام ، وفيه معنى التقريع والتوبيخ ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ المطففين : 29 - 36 ] . يلتفت الله إلى المؤمنين الذين اسْتُهزئ بهم في الدنيا : هل قدرنا أنْ نجازي هؤلاء الكافرين ، ونردّ إليكم حقوقكم - وفي هذا إيناسٌ للمؤمنين وتقريعٌ للكافرين - فيقولون : نعم يا رب ، نعم يا رب ، نعم يا رب ، فالحق سبحانه يريد أنْ يحرش المؤمنين بهم ، فلا يلينون لهم ، ولا يعطفون عليهم ، لأنهم طَغَوْا وتكبَّروا ، وعرضتْ عليهم الحجج والأدلة فكذَّبوها وأصرُّوا على عنادهم ، فبالغوا في الظلم .