Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 69-69)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نقول : جَهدَ فلان يجهد أي أتعب نفسه واجتهد : ألح في الاجتهاد وجاهد غيره ، فجاهد تدل على المفاعلة والمشاركة ، وهي لا تتم إلا بين طرفيْن ، وفي هذه الصيغة المفاعلة نغلب الفاعلية في أحدهما والمفعولية في الآخر ، مع أنهما شركاء في الفعل ، فكلٌّ منهما فاعل في مرة ، ومفعول في أخرى ، كأنك تقول : شارك زيدٌ عمراً ، وشارك عمرو زيداً . أو : أن الذي له ضِلع أقوى في الشركة يكون فاعلاً والآخر مفعولاً . وبعد أن بيَّن الحق سبحانه أن مثوى الكافرين المكذِّبين في جهنم وحرَّش المؤمنين بهم ، وما داموا قد ظَلموا هذا الظلم العظيم لا بُدَّ أن يوجد تأديب لهم ، هذا التأديب لا لإرغامهم على الإيمان ، { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … } [ الكهف : 29 ] إنما التأديب أن نجهر بدعوتنا ، وأن نعلي كلمة الحق ، فمن شاء فليؤمن ، ومَنْ شاء فليظل على حاله ، إذن : فالآية تبين موقف المؤمنين أمام هؤلاء المكذبين : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا … } [ العنكبوت : 69 ] . معنى جاهدوا فينا أي : من أجلنا ولنصرة ديننا ، والخصومات التي نجاهدها في الله كثيرة : خصومة في مسألة القمة الإيمانية ووجود الإله الواحد كالملاحدة الذين يقولون بعدم وجود إله في الكون ، وهؤلاء لهم جهاد ، وأهل الشرك الذين يقرون بوجود الله لكن يدَّعُون أن له شريكاً ، وهؤلاء لهم جهاد آخر . فجهاد الملاحدة بالمنطق وبالحجة ليقولوا هم بأنفسهم بوجود إله واحد ، ونقول لهم : هل وُجِد مَن ادعى أنه خلق ذاته أو خلق غيره ؟ بل تأملوا في أتفه الأشياء التي تستخدمونها في حياتكم : هذا الكوب الزجاجي وهو ترف ليس من ضروريات الحياة هل تقولون : إنه وُجد هكذا دون صانع ؟ إذن : كيف وُجِد ؟ هل لدينا شجرة مثلاً تطرح لنا هذه الأكواب ؟ إذن : هي صنعة لها صانع ، استخدم العقل الذي منحه الله إياه ، وأعمله في المواد التي جعلها الله في الكون ، واستنبط منها هذه المادة الزجاج . مصباح الكهرباء الذي اخترعه إديسون كم أخذ منه من جهد وبحث ودراسة ، ثم يحتاج في صناعته إلى معامل ومهندسين وصيانة ، ومع ذلك حصاة صغيرة تكسره فينطفىء ، وقد أخذ أديسون كثيراً من الشهرة وخلَّدنا ذكراه ، وما زالت البشرية تذكر له فضله . أفلا ينظرون في الشمس التي تنير الدنيا كلها منذ خلقها الله وإلى قيام الساعة دون أنْ تحتاج إلى صيانة ، أو إلى قطعة غيار ؟ وهل يستطيع أحد أن يتناولها ليصلحها ؟ وهل تأبَّتْ الشمس عن الطلوع في يوم من الأيام ، وما تزال تمدكم بالحرارة والأشعة والدفء والنور ؟ أتعرف مَنْ صنع المصباح ، ولا تعرف مَنْ صنع الشمس ؟ لقد فكرتم في أتفه الأشياء وعرفتم مَنْ صنعها ، وأرَّخْتُم لهم ، وخلدتم ذكراهم ، ألم يكن أَوْلَى بكم التفكُّر في عظمة خلق الله والإيمان به ؟ ثم قُلْ لي أيها الملحد : إذا غشيك ظلام الليل ، كيف تضيئه ؟ قالوا : كل إنسان يضيء ظلام ليله على حَسْب قدرته ، ففي الليل ترى الإضاءات مختلفة ، هذا يجلس في ضوء شمعة ، وهذا في ضوء لمبة جاز ، وهذا في ضوء لمبة كهرباء ، وآخر في ضوء لمبة نيون ، فالأضواء في الليل متباينة تدل على إمكانات أصحابها ، فإذا ما طلعتْ الشمس ، وأضاء المصباح الرباني أطفئت كل هذه الأضواء ، ولم يَعُدْ لها أثر مع مصباح الخالق الأعظم سبحانه . أليس في هذا إشارة إلى أنه إذا جاءنا حكم من عند الله ينبغي أنْ نطرح أحكامنا جميعاً لنستضىء بحكم الله ؟ أليس في صدق المحسوس دليل على صدق المعنويات ؟ وأنت يا مَنْ تدّعي أن لله شريكاً في مُلكه : مَنِ الذي قال إن لله شريكاً ؟ لقد قلتها أنت من عند نفسك لأن الله تعالى حين قال : أنا إله واحد لا شريك لي لم يعارضه أحد ، ولم يدَّعِ أحد أنه شريك لله . فهذا دليل على أن الشريك غير موجود ، أو أنه موجود ولم يَدْرِ ، أو درى ولم يقدر على المواجهة ، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلهاً . ثم على فرض أنه موجود ، ما منهجه ؟ بماذا أمرك وعَمَّ نهاك ؟ ماذا أعدَّ لك من النعيم إنْ عبدته ؟ وماذا أعد لك من العذاب إنْ كفرتَ به ؟ إذن : فهذا الإله المزعوم إله بلا منهج ، فعبادته باطلة . أما هؤلاء الذين يؤمنون بدين سماوي ولا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم فنقول لهم : يكفي من جوانب العظمة في شخصية محمد بن عبد الله أنه لا يتعصب لنفسه لأن قلبه مع كل مَنْ يؤمن بالله حتى وإنْ كفر به ، محمد يحب كل مَنْ آمن بربه ، وإنْ كفر بمحمد ، إنه يتعصب لربه حتى فيمن كذبه . ثم أنتم يا أصحاب الديانات اليهودية أو المسيحية الذين عاصرتم ظهور الإسلام فأنكرتموه ، مع أن دينكم جاء بعد دين ، ورسولكم جاء بعد رسول سابق ، فلماذا لما جاءكم محمد كذَّبتموه وكفرتم به ؟ لماذا أبْحتم أنْ يأتي عيسى بعد موسى عليهما السلام ، وأنكرتُم أنْ يأتي بعد عيسى محمد ؟ إذن : لكل خصومة في دين الله جدل خاص ومنطق للمناقشة نقوم به في ضوء : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا … } [ العنكبوت : 69 ] وعليك أن تنظر أولاً ما موقع الجهاد الذي تقوم به ، فجهاد الملاحدة بأسلوب ، وجهاد المشركين بأسلوب ، وجهاد أهل الكتاب بأسلوب ، وجهاد المسلم للمسلم كذلك له منطق إنْ دبَّ بينهما الخلاف ، مع أن الله تعالى قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ … } [ الأنعام : 159 ] . فساعةَ ترى كلاً منهما في طرف ، بحيث لا تستطيع أن تتبع أحدهما ، فاعلم أنهما على باطل لأن الإسلام شيء واحد سبق أنْ شبَّهناه بالماء الأبيض الصافي الذي لم يخالطه لون ولا رائحة ولا طعم ، فإنْ لوَّنته الأهواء وتحزَّب الناس فيه كما يُلوِّنون العصائر فقد جانبهم الصواب وأخطأوا الدين الصحيح . لأن ما جاء فيه حكم صريح من عند الله اتفقنا عليه ، وما تركه الله لاجتهادنا فينبغي على كُلٍّ منا أن يحترم اجتهاد الآخر ، وأن يقول : رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ، وبهذا المنطق تتعايش الآراء . والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا المثل على ذلك ، فما أراده سبحانه في المنهج مُحكماً يأتي محكماً في قول واحد لا خلاف فيه ، وضربنا مثلاً لذلك بآية الوضوء : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ … } [ المائدة : 6 ] . فلم يحدد الوجه لأنه لا خلاف في تحديده بين الناس ، إنما حدد الأيدي لأنها محل خلاف . إذن : فالقضايا التي تُثار بين المسلمين ينبغي أن يكون لها جدل خاص في هذا الإطار دون تعصُّب ، فما جاءك مُحْكماً لا مجالَ فيه لرأي التزم به الجميع ، وما تُرِك بلا تنصيص لا يحتمل الخلاف ، فليذهب كل واحد إلى ما يحتمله النص . فالباء في لغتنا مثلاً تأتي للتبعيض ، أو للاستعانة ، أو للإلصاق ، فإنْ أخذتَ بمعنىً فلا تحجر على غيرك أنْ يأخذ بمعنى آخر . فإنِ استعر القتال بين طائفتين من المسلمين ، فيجب أن تكون هناك طائفة معتدلة تتولى أمر الإصلاح ، كما قال سبحانه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] . نلحظ أن الله تعالى سماهم مؤمنين ، ومعنى ذلك أن الإيمان لا يمنع أن نختلف ، وهذا الإيمان الذي لا يمنع أن نختلف هو الذي يُوجب علينا أن يكون منا طائفة معتدلة على الحياد لا تميل هنا أو هناك ، تقوم بدوْر الإصلاح وبدوْر الردع للباغي المعتدي حتى يفييء إلى الجادة وإلى أمر الله . فإنْ فاءت فلا نترك الأمور تُخيّم عليها ظلال النصر لفريق ، والهزيمة لفريق آخر ، إنما نصلح بينهما ، ونزيل ما في النفوس من غِلٍّ وشحناء ، فقد تنازل القوي عن كبريائه لما ضربنا على يده ، وَقوِي الضعيف ، بوقوفنا إلى جانبه ، فحدث شيء من التوازن وتعادلتْ الكِفّتان ، فليعُدْ الجميع إلى حظيرة الأمن والسلام . بقي لنا أن نتحدث عن جهاد آخر أهم ، هو جهاد النفس البشرية " لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من إحدى الغزوات قال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " فوصف جهاد النفس بأنه الجهاد الأكبر ، لماذا ؟ لأنك في ساحة القتال تجاهد عدواً ظاهراً ، يتضح لك عدده وأساليبه ، أمّا إنْ كان عدوك من نفسك ومن داخلك ، فإنه يعزّ عليك جهاده ، فأنت تحب أنْ تحقق لنفسك شهواتها ، وأنْ تطاوعها في أهوائها ونزواتها ، وهي في هذا كله تُلِح عليك وتتسرَّب من خلالك . فعليك أنْ تقف في جهاد النفس موقفاً تقارن فيه بين شهوات النفس العاجلة وما تُورِثك إياه من حسرة آجلة باقية ، وما تضيعه عليك من ثواب ربك في جنة فيها من النعيم ، ما لا عَيْن رأتْ ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . ضع ربك ونفسك في هذه المقابلة وتبصّر ، واعلم أن لربك سوابقَ معك ، سوابق خير أعدّها لك قبل أن توجد ، فالذي أعدَّ لك كل هذا الكون ، وجعله لخدمتك لا شكَّ مأمون عليك ، وأنت عبده وصنعته ، وهل رأيت صانعاً يعمد إلى صنعته فيحطمها ؟ أما إن رأيت النجار مثلاً يمسك بالفارة وينحت في قطعة الخشب ، فاعلم أنه يُصلحها لأداء مهمتها ، وأذكر قصة الطفل أيمن الذي جاء أمه يبكي لأن الخادمة تضرب السجادة ، فأخذتْه أمه وأرتْه التراب الذي يتساقط من السجادة في كل ضربة من ضربات الخادمة ، ففهم الطفل على قدر عقله . وكذلك الحق سبحانه حين يبتلي خَلْقه ، فإنما يبتليهم لا كَيْداً فيهم ، بل إصلاحاً لهم . ألم نسمع كثيراً أماً تقول لوحيدها إلهي أشرب نارك ؟ بالله ما حالها لو استجاب الله لها ؟ وهي في الحقيقة لا تكره وحيدها وفلذة كبدها ، إنما تكره فيه الخصلة التي أغضبتها منه . وكذلك الحق - سبحانه وتعالى - لا يكره عبده ، إنما يكره فيه الخصال السيئة فيريد أنْ يُطهِّره منها بالبلاء حتى يعود نقياً كيوم ولدته أمه ، فأحسن أيها الإنسان ظنك بربك . إذن : نقول : إن من أعظم الجهاد جهادك لنفسك ، لأنها تُلِح عليك أن تُشبع رغباتها ، كما أنها عُرْضة لإغراء الهوى ووسوسة الشيطان الذي يُزيِّن لها كل سوء ، ويُحبِّب إليها كل منكر . وسبق أنْ بيَّنا : كيف نُفرِّق بين تزيين الشيطان وتزيين النفس لأن النفس مدخلاً في المعصية بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة ، وغُلِّقت أبواب النار ، وصُفِّدت الشياطين " . فلو كانت الذنوب كلها بسبب الشيطان لم نجد من يذنب في رمضان ، إنما هناك كثير من الذنوب تُرتكب في رمضان ، وهذا يعني أنها من تزيين النفس ، وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يكشف ابن آدم : ها أنا قد صفَّدْت الشياطين ومع ذلك تذنبون . فإنْ أردتَ أنْ تعرف هل المعصية من النفس أم من الشيطان ، فإن النفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد سواها ، ولا تنتقل بك إلى غيرها ، وتظل تُلح عليك إلى أنْ تُوقِعك فيها ، أما الشيطان فإنه يريدك عاصياً بأية صورة وعلى أية حال ، فإنْ تأبَّيْتَ عليه نقلك إلى معصية أخرى . وعلى العاقل أن يتأمل ، فالمعصية تعطيك لذة عاجلة ومتعة فانية ، لا تليق أبداً بهذا الإنسان الذي كرَّمه الله ، وجعله خليفة له في الأرض ، وسيداً لهذا الكون ، والكون كله بأرضه وسمائه خادم له ، فهل يُعقل أنْ يكون الخادم أطول عمراً من المخدوم ؟ إنك تموت بعد عام أو بعد مائة عام ، في حين أن الشمس التي تخدمك تعمر ملايين السنين : إذن : لا بُدَّ أن لك حياة أخرى أبقى وأدوم من حياة خادمك ، فإنْ كنتَ الآن في حياة تُوصَف بأنها دنيا ، فهذا يعني أنها تقابلها حياة أخرى تُوصَف بأنها عليا ، وهي حياتك في الآخرة ، حيث لا موتَ فيها أبداً . والقرآن الكريم حينما يُحدِّثنا عن الجهاد يقول مرة : { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ التوبة : 41 ] ويقول : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا … } [ العنكبوت : 69 ] . الجهاد في سبيل الله أي في الطريق إلى الله لإثبات الإيمان بالإله الواحد ، وصدق البلاغ من الرسول المؤيَّد بالمعجزة وبالمنهج ، فإذا وضح لك السبيل فآمنت بالله الواحد الأحد قال لك : اجعل كل حركة حياتك في إطار { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا … } [ العنكبوت : 69 ] يعني : من أجلنا مخلصين لله لا ينظرون إلى غيره . والإنسان مهما تحرَّى الإخلاص في عمله ، وقصد به وجه الله لا يأمن أن يخالطه شيء من رياء أو سمعة ، حتى أن المعصوم محمداً صلى الله عليه وسلم ليقول : " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك ، فخالطني فيه ما ليس لك " . وهذا معنى جاهدوا فينا أن يكون العمل كله لله خالصاً ، وإلاَّ فما الفَرْق بين المؤمن والكافر ، وكلاهما يعمل ويسعى في الدنيا لكسب لقمة العيش له ولأولاده ، فهما في السعي سواء ، فما مزية المؤمن إذن ؟ الميزة أن الكافر يعمل على قَدْر حاجته فحسب ، أمّا المؤمن فيعمل على قدر طاقته ، فيأخذ ما يكفيه ويعود بالفضل على مَنْ لا طاقةَ عنده للعمل ، ففي نيته أن يعمل له وللمحتاج غير القادر . ونمثل لذلك بالبقال الذي فتح الله عليه ، فباع كثيراً في أول النهار وأخذ كفايته ، ثم أغلق محله فلم ينظر إلى الذين يعاملونه على الشهر ، ويأخذون حاجتهم لأجَل ، ولم ينظر إلى ربة البيت التي تنتظر عودة زوجها لتشتري ما يلزمها ، فقد نظر إلى حظ نفسه ، ونسي حظ الآخرين . واقرأ إنْ شئت قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ * ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } [ المؤمنون : 1 - 4 ] ولم يقل مُؤدُّون إنما : فاعلون من أجل الزكاة أي : يعملون على قَدْر طاقتهم ، لا على قدْر حاجتهم . فالذين يعملون في إطار { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا … } [ العنكبوت : 69 ] لا يغيب الله أبداً عن بالهم . ولكي نفقه هذه المسألة انظر إلى عمل أو جميل قدَّمته لغير وجه الله ترى أن صاحبه أنكره ، بل ربما لا ينالك منه إلا الذمّ ، وساعتها لا تلومنّ إلا نفسك ، لأنك أخطأت التوجه ، وقد عملت للناس فخُذْ أجرك منهم ، إنما إنْ عملتَ لوجه الله فثِقْ أن جميلك محفوظ عند الله وعند الناس . والحق - سبحانه وتعالى - حينما أعطى للإنسان الاختيار في أن يؤمن أو أنْ يكفر يلفت بهذا أنظارنا أنه إذا صنعتَ جميلاً في إنسان ، ثم أنكر جميلك وكفر به ، فلا تحزن لأن الناس فعلوا ذلك مع الله - عز وجل - فقد خلقهم ورزقهم ثم كفروا به . ثم يأتي جزاء الجهاد في ذات الله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا … } [ العنكبوت : 69 ] أي : ندلّهم على الطرق الموصِّلة إلينا ، كأن الطريق إلى الله ليس واحداً ، إنما سبل شتى لذلك لا تحقرنَّ من الطاعة شيئاً مهما كان يسيراً ، فإن الله تعالى غفر لرجل سقى كلباً يلهث من العطش ، ولا تحقرن من المعصية شيئاً ، فإن الله أدخل امرأة النار لأنها حبست قطة ، ولا تحتقرن عبداً مهما كان ، فإن الله تعالى أخفى أسراره في خَلْقه فرُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه . فإذا علمتَ من نفسك ميزة على الآخرين فانظر فيم يمتازون به عنك ، ودَعْك من نظرة تُورثك كبراً ، واستعلاء على الخَلْق ، فإنْ كنت أفضل في شيء فأنت مفضول في أشياء كثيرة ، وسبق أن قلنا : إن الله نثر المواهب بين الخَلْق ليظلوا ملتحمين بحاجة بعضهم إلى بعض . فقوله تعالى { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا … } [ العنكبوت : 69 ] أي : السبل الموصِّلة لنعيم الآخرة ، سبل الارتقاء في اليقين الإيماني الذي قال الله عنه : { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم … } [ الحديد : 12 ] . ويقول سيدنا عمر بن عبد العزيز : ما قصَّر بنا في علم ما جهلناه ، إلا تقصيرنا في العمل بما علمناه فالذي جعلنا لا نعرف أسرار الله أننا قصرنا في العمل بما أمرنا به ، إذن : فلماذا يعطينا ونحن لا نعمل بما أخذنا من قبل ، لكن حين تعمل بما علمتَ ، فأنت مأمون على منهج الله ، فلا يحرمك المزيد ، كما قال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . وقوله تعالى : { يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } [ الأنفال : 29 ] والفرقان من أسماء القرآن ، فحين تتقي الله على مقتضاه ، وبمدلول منهجه في القرآن يمنحك فرقاناً آخر ونوراً آخر تبصر به حقائق الأشياء ، وتهتدي به إلى الحكم الصحيح ، هذا النور الذي وهبه الله للإمام علي - رضي الله عنه - حينما دخل على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فوجده يريد أنْ يقيم الحَدَّ على زوجة ولدتْ لستة أشهر ، والشائع أن فترة الحمل تسعة أشهر ، فقال لعمر : لكن الله قال غير ذلك يا أمير المؤمنين ، قال عمر : وماذا قال يا علي ؟ قال علي : قال الله تعالى : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ … } [ البقرة : 233 ] يعني : أربعة وعشرون شهراً . وقال في موضع آخر : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً … } [ الأحقاف : 15 ] وبطرح العددين يكون الباقي ستة أشهر ، وهي أقل مدة للحمل . هذا هو الفرقان الذي يمنحه الله للمؤمنين الذين عملوا بما علموا لذلك كان عمر بن الخطاب وما أدراك ما عمر ؟ عمر الذي كان ينزل الوحي على وَفْق رأيه ، كان يقول : بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن . ومعلوم أن علياً - رضي الله عنه - تربَّى في حِجرْ رسول الله ، وشرب من معينه ، فكل معلوماته إسلامية ، وله في الحق حجة ومنطق . فمثلاً في موقعة صِفِّين التي دارتْ بين علي ومعاوية كان عمار بن ياسر في صفوف علي ، فقتله جنود معاوية ، فتذكر الصحابة قول رسول الله لعمار " وَيْح عمار ، تقتله الفئة الباغية " فعلموا أنها فئة معاوية . فأخذ الصحابة يتركون صفوف معاوية إلى صفوف علي ، فأسرع عمرو بن العاص وكان في جيش معاوية ، فقال له : يا أمير المؤمنين فَشَتْ فاشيةٌ في الجيش ، إنْ هي استمرت فلن يبقى معنا أحد ، قال : وما هي ؟ قال : تَذَكَّر الناس قول رسول الله " ويح عمار تقتله الفئة الباغية " قال معاوية : فأفْشِ فيهم ، إنما قتله مَنْ أخرجه للقتال - أي علي - فلما بلغ علياً هذه المقالة قال بما عنده من الفرقان والحجة : إذن قولوا له مَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب ؟ فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ، ومثَّلْنا لذلك قلنا : هب أن لك ولداً متعثراً غير مُوفَّق في حياته العملية ، فنصحك إخوانك بأنْ تعطيه فرصة ، وتجربه ولو بمشروع صغير في حدود مائة جنيه ، فلما فعلتَ بدَّد الولد هذا المبلغ ولم ينتفع به ، أتجرؤ على منحه مبلغاً آخر ؟ وإنما لو ثمَّر هذا المبلغ ونماه لأعطيته أضعافاً . ثم يقول سبحانه : { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] الإحسان من الإنسان أن يعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فإنه يراه ، والإحسان في الأداء أن تزيد عما فرض الله عليك ، لكن من جنس من فرض ، فإذا أنت أحسنتَ أحسن الله إليك بأنْ يزيدك إشراقاً ، ويزيدك نورانية ، ويُخفِّف عنك أعباء الطاعة ، ويُقبِّح في نفسك المعاصي . لذلك بلغت محبة أحد العارفين للطاعة حتى قال : اللهم إني أخاف ألاّ تثيبني على طاعتي لأنني أصبحتُ أشتهيها . يعني : لو لم تكن هناك جنة ولا نار لفعلتُ الطاعة لأنها أصبحتْ بالنسبة لي شهوة نفس ، وقد أمرتنا يا ربّ أن نخالف شهوة النفس لذلك أخاف ألاَّ تثيبني عليها ، ولمثل هذا نقول : { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] . كلمة مع تفيد المعية ، والمعية في أعراف البشر أنْ يلتقي شيء بشيء ، لكن إذا كانت المعية مع الله فافهم أنها معية أخرى غير التي تعرفها مع زميلك أو صديقك ، خُذْها في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] فلك وجود ولله وجود ، لكن أوجودك كوجود الله ؟ الله يعلم أننا نسجل الآن في مسجد أبي بكر الصديق ، لكن هل علْمنا كعِلْمه تعالى ؟ الله يعلم هذا قبل أن ينشأ المسجد ، وقبل أنْ نُولد نحن . لذلك يضرب الله لنا مثلاً فيقول : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] هذا مَثَل للرد على الذين يطلبون رؤية الله عز وجل وهو غَيْب ، مثل للذين قالوا لنبيهم { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً … } [ النساء : 153 ] . لكن كيف يرونه والعظمة في الإله ألاَّ يُرى ، ولا تدركه الحواس ، والحق سبحانه يعطينا الدليل في أنفسنا { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] فتأمل في أقرب شيء إليك في نفسك ، لا في الآفاق من حولك ، أليست فيك روح تُحرِّك جسمك ، وبها تحيا وتنفعل أعضاؤك ، بدليل إذا خرجتْ منك هذه الروح تصير جثة هامدة ؟ أرأيت هذه الروح وهي بين جنبيك ؟ أأدركتها بأيِّ حاسة من حواسك ؟ إذن : هي معك ، لكن ليست تحت إدراكك ، وهي خَلْق بسيط من خَلْق الله ، فكيف تتطلع إلى أن ترى الخالق سبحانه وأنت لا تقدر على رؤية المخلوق ؟ لكن إن قُلْت : فرؤية المؤمنين لله في الآخرة ؟ ففي الآخرة يخلقني الله خَلْقاً آخر أستطيع أن أراه سبحانه ، حيث سيكون للخَلْق معايير أخرى ، ألستَ تأكل وتشرب في الآخرة ، ومع ذلك لا تتغوَّط في الجنة ؟ لذلك لما سأل حاكم الروم أحد علماء المسلمين : كيف تأكلون وتشربون في الجنة ولا تتغوطون ؟ فقال له : وما العجيب في ذلك ؟ ألم تر إلى الطفل في بطن أمه يتغذى وينمو وهو لا يتغوط ، ولو تغوَّط في مشيمته لاحترق . ثم سأله : وتقولون إن نعيم الجنة تأخذون منه ولا ينتهي ولا ينقص ؟ فقال : هَبْ أن لك مصباحاً ، وجاءت الدنيا كلها ، وقبستْ من مصباحك ناراً ، أينقص منه شيء ؟ فسأله : فأين تذهب الأرواح التي كانت فينا بعد أن نموت ؟ فقال : تذهب حيث كانت قبل أنْ تسكن فينا . هذه مسائل ونماذج للتوفيق والهداية للحق في إطار : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا … } [ العنكبوت : 69 ] وهي فَيْض مما قال الله فيه : { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } [ الأنفال : 29 ] .